عندما وصل الرئيس
التونسي
قيس سعيد إلى قصر قرطاج، كان من الواضح أن هذا "الخبير الدستوري" القادم
من خارج المنظومة التقليدية للحكم والوافدين الجدد عليها؛ سيكون محورا من المحاور
الأساسية للسجال العام.
فدخول هذه الشخصية التي انتصرت على
"الماكينات الحزبية" الضخمة إلى رئاسة الجمهورية كان حدثا تاريخيا
مفصليا، سواء أقاربناه من جهة انتظارات ناخبيه أم من جهة هواجس خصومه (بمن فيهم
أولئك الذين اضطروا إلى دعمه في الدور الثاني من الانتخابات
الرئاسة بمنطق
"الانتخاب المفيد").
ولعلّ ما زاد من أهمية العهدة الرئاسة للسيد
قيس سعيّد هو أنها قد بدأت في ظل أزمة سياسية كبرى تؤشر لها المفاوضات المتعثرة
لتشكيل الحكومة بعد تكليف السيد الحبيب الجملي برئاستها، بالإضافة إلى المشروع
السياسي "الملتبس" للسيد قيس سعيد، ذلك المشروع الذي ينزاح (وفق بعض
القراءات المشروعة) بوظيفة الرئيس من مدار "التحكيم" والتجميع لكل
التونسيين على أساس ما توافقوا عليه دستوريا ضمن
الديمقراطية التمثيلية، إلى مدار
نسف ما تأسست عليه الجمهورية الثانية في مجال نظام توزيع السلطات داخل النظام
البرلماني المعدّل وما يحكمه من توسّط الأحزاب.
بصرف النظر عن الاستراتيجيات الخفية التي تحكم
الانتقادات الموجهة للسيد قيس سعيد (من مثل سعي تلك الانتقادات إلى تخفيف الضغط عن
باقي الفاعلين الجماعيين، خاصة الأحزاب السياسية التي يُحمّلها أغلب التونسيين
مسؤولية تردي الأوضاع على مختلف الأصعدة)، وبصرف النظر عن صعوبة إنكار الأزمة
العميقة التي تعيشها الديمقراطية التمثيلية، لأسباب تتعلق بالقانون الانتخابي
وبالمال السياسي الفاسد وبدور وسائل الإعلام في تسفيه إرادة الناخبين أو توجيهها
لخدمة المنظومة القديمة.. بصرف النظر عن ذلك كله، فإن العديد من الأسئلة التي
توجّه للسيد قيس سعيد تظل مشروعة وتستدعي ردودا لا تقبل الالتباس أو الاشتراك
الدلالي.
لو أردنا التأريخ للأزمة التي قد تتسبب فيها
المبادرة التشريعية المنتظرة من السيد قيس سعيد لتعديل الدستور، فإننا سنعتبرها
لحظة ثانية من لحظات الأزمة المرتبطة بالقانون المنظم للسلطات وبالنظام الانتخابي
برمته. فحسب القانون المنظم للسلطات في تونس، يتمتع رئيس الجمهورية بصلاحيات
محدودة مقارنة برئيس الوزراء. ورغم أن الرئيس يصل إلى قصر قرطاج بالانتخاب الشعبي
المباشر، فإن السلطات التنفيذية تكاد تجتمع بين يدي رئيس الوزراء. وهو وضع كان من
المفترض فيه ألا يثير العديد من الإشكالات لو عرفت بلادنا اشتغالا طبيعيا للعقل أو
للحقل السياسي المترسّب من عهد المخلوع.
فسلطة رئيس الوزراء مستمدة أساسا من كونه زعيم
الحزب الفائز، ولكنّ فتنة قصر قرطاج (ورغبة الدولة العميقة في تعديل الدستور) جعلت
المرحوم الباجي قائد السبسي يُعرض عن الترشح للبرلمان ورئاسة الحكومة (على اتساع
سلطاتها)، ويترشح لرئاسة الدولة. ورغم فشل الرئيس السابق في إيجاد حزام سياسي كاف
الرأي لتعديل الدستور صوب النظام الرئاسي، فإنه قد ساهم بقسط كبير في تأزيم النظام
البرلماني المعدّل وفي تهرئة مصداقية الأحزاب المتنافسة على إدارته بدءا من حزبه
ذاته (أي حركة نداء تونس).
رغم غياب أي دراسات موثوقة لمدى تأثير أزمة
الديمقراطية التمثيلية على خيارات التونسيين في الانتخابات الرئاسية السابقة، يبدو
من المنطقي ربط وصول السيدين قيس سعيد ونبيل القروي إلى الدور الثاني بوجود أزمة
ثقة في الكيانات الحزبية التقليدية، بل في النخبة السياسية برمّتها.
وقد أكّدت النتيجة النهائية للانتخابات (فوز
الأستاذ قيس سعيد بنسبة تقارب الـ73 في المائة من جملة الأصوات) وجود توجه عام لدى
الناخبين بمختلف مشاربهم وجهاتهم نحو تغيير المشهد السياسي المأزوم منذ المجلس
التأسيسي. ولكنّ الإشكال يظهر حين نحاول تنزيل مفهوم "التغيير" في
الواقع التونسي. ولو أردنا البحث عن نماذج "مثالية" يمكننا أن نرد إليها
السجال العام حول انتظارات التونسيين من رئيسهم، لقلنا إننا أمام نموذجين كبيرين:
1- نموذج "إصلاحي" يرى في رئيس الدولة
مجرد ظهير لعمل الحكومة أو لوعود الأحزاب في محاربة الفساد. وينطلق المدافعون عن
هذا النموذج من ضرورة احترام الدستور والقانون المنظم للسلطات (مع إمكانية إدخال
تعديلات "داخلية" عليه كتغيير القانون الانتخابي لتجاوز التناقضات
الداخلية للنظام البرلماني المعدّل وضمان استقرار أكبر للعمل الحكومي). ولذلك
فإنهم يتوجسون خيفة من أي مبادرة تشريعية لتعديل الدستور، سواء أكان ذلك التعديل
لتوسيع صلاحيات الرئيس أم كان لتوسيع قاعدة الحكم المحلي أو "المجالسي"
الذي قد يؤثر جذريا في سلطة الأحزاب وفي دورها المركزي في صناعة القرار وطنيا
وجهويا. ولا يتورّع المدافعون عن النموذج "
الإصلاحي" عن استهداف رئيس
الدولة (حتى عندما يمتنع عن تفعيل صلاحياته بصورة لا تخالف الدستور)، لأنهم يرون
في سلوكه استراتيجية سياسية مقصودة لإضعاف المنظومة الحزبية والتمهيد للانقلاب على
القانون المنظم للسلطات.
2- نموذج "ثوري" يرى في رئيس الدولة
قاطرة لمشروع سياسي بديل، وهو مشروع يفتقد حاليا لرافعة حزبية، ولكنه يمتلك ورقة
ضغط لا تقل أهمية عن الأحزاب: المبادرات التشريعية الرئاسية وإمكانية الالتجاء إلى
الاستفتاء العام في صورة التصادم مع المجلس النيابي. ولا يخفي المدافعون عن هذا
النموذج زهدهم في أية علاقة "تشاركية" بين الرئيس وبين باقي الفاعلين
السياسيين، ولذلك فإنهم يعتبرون امتناع الرئيس عن التدخل في المشهد السياسي سلوكا
سياسيا سليما. فهو بذلك سيدفع بتناقضات الأحزاب إلى الحد الذي يجعل الرأي العام
يرى في المبادرة التشريعية الرئاسية استجابة عقلانية لانتظارات التونسيين.
بحكم خيبة التونسيين من الأحزاب المحسوبة على
الثورة بعد انتخابات 2019، وبحكم تعمّق الهوة بين المواطنين وبين النخب والتشكيلات
السياسية التقليدية، يبدو أنّ المستقبل سيشهد صراعا كبيرا بين مؤسسة الرئاسة (ومن
يقف وراءها من "منظرين" لتعديل منظومة الحكم) وبين الأحزاب السياسية
المهيمنة على الشأن العام. وهو صراع لن يتأخر كثيرا في صورة فشل المفاوضات الجارية
لتشكيل الحكومة. ونحن نذهب إلى أن هذا الصراع قد يكون ضروريا للخروج من الأزمة
البنيوية لمنظومة الحكم، تلك الأزمة التي يرى ورثة المنظومة القديمة وحلفاؤهم
الجدد أنها لا تحتاج إلا إلى إصلاحات جزئية وموضعية، بينما يرى غيرهم أنها تستدعي
بالضرورة تغييرات جذرية قد يطرحها السيد قيس سعيّد في مبادرة تشريعية رئاسية.