الكتاب: "اثنتا عشرة سنة من الاستعباد (رحلة أسِيرة هُولَندية في بِلاد المغرب 1731- 1743)"
المؤلفة: ماريا تير ميتلن
ترجمة: بوشعيب الساوري
الناشر: دار منشورات المتوسط - إيطاليا، ودارالسويدي- الإمارات العربية المتحدة 2018.
عدد الصفحات: 143 صفحة من الحجم المتوسط.
يواصل الكاتب، والباحث الفلسطيني، أحمد الدبش، في الجزء الثاني والأخير، من قراءته لكتاب "اثنتا عشرة سنة من الاستعباد"، للهولندية ماريا تير ميتلن، حيث يتناول هذا الجزء، الولاية الثانية لحُكم مولاي عبد الله، ومولاي محمد (1736 ـ 1738)، وحكم مولاي مستضي، ومولاي زين، والولاية الثالثة والرابعة لمولاي عبد الله (1740 ـ 1742).
الولاية الثانية لحُكم مولاي عبد الله
"تم تنصيب أربعة ملوك. كانوا يُنصَّبون، الواحد تلو الآخر، على العرش، ويُخلعون، وهو ما تسبّب في مناوشات، لا يُستهان بها. وظللنا بضعة أيّام بلا ملك إلى غاية يوم 8 أيار (مايو) من سنة 1736، حيث أُعلِن عن مولاي عبد الله ملكاً من جديد(...) حيث استدعى الأسرى النصارى كلهم، وأمرهم بحَفْر منجم (كذا) حول القصر" (ص 85).
"في أجواء ذلك الضيق الشديد، هربتُ إلى الدَّيْر، ومعي كل ما أملك، فوفّر لي الكَهَنَة، على الفور، الغُرفة والمأكل والمشرب" (ص 86). أُجْبِرَ النصارى على الأعمال الشّاقّة، "في يوم 17 حزيران (يونيو)، رحل 220 نصرانياً، وفي 20 أيلول (سبتمبر) من سنة 1736 لم يتبقّ سوى 100 نصرانيّ، أغلبهم مرضى. بينما فَقَدْنا 24 هولندياً في يوم 12 آب (أغسطس)، كان زوجي قد عاد إلى البيت مرتين مريضاً(...) امتثلتُ أمام الباشا، وطلبت منه أن يمكّنني من إعادة فتح حانتي، حتّى أستطيعَ كسْب قُوْت يومي أنا وزوجي" (ص 87).
"بارك الله لي بشكل مُعجِز، لأنيّ لم أربح فقط المال من أجل إعالة زوجي وأطفالي، بل كان بمستطاعي إرسال المأكل والمشرب لستّة أو ثمانية رجال(...) وحققت أرباحاً كثيرة ما بين 24 حزيران (يونيو) و21 أيلول (سبتمبر) من سنة 1736، وهو اليوم الذي هُدِّم فيه بيتي، وخُلع فيه الملك(...) وها نحن أولاء من جديد بلا ملك" (ص 88).
حُكم مولاي محمد ولد عربية
"وفي اليوم الموالي، تمّ تنْصيب سيدي محمّد ولد عربية ملكاً، والذي كان صالحاً، بالنسبة إلى النصارى، لكنه كان ما يزال طفلاً في أعين أبناء البلد(...) خلال حُكم هذا الملك، اجتزنا فترة غلاء يُرثى لها، امتدّت من سنة 1737 إلى حزيران (يونيو) 1738، قضى خلالها 48 ألف نفر، بسبب اشتداد الجوع" (ص 89). "فحرّر الملك، في البداية، الإسبانيّين في منتصف تشرين ثاني (نوفمبر) 1736، وفي العاشر من آب (أغسطس) سنة 1737 في بداية زمن الغلاء، سمَح للفرنسيّيْن بالذهاب، بحيث لم يتبقّ منّا، نحن معشر الأسرى الهولنديّيْن، سوى 28 هولندياً وثلاثة برتغاليّين ممن بقوا على قيْد الحياة" (ص 90). "اقتادَنى واحد من مندوبيه إلى الداخل رفقه إبني أمام الملك ونسائه، حيثُ حظيتُ باستقبال غاية في اللُّطف(...) ووهبني بيتاً في المدينة(...) وطمأنني أنّ زوجي لن يُعنَّف بعد الآن" (ص 91). و"منحني تُرجمانة، يعني معلّمة اللغة، لأنني لم أكن أعرف جيّداً اللغة العربية(...) كُنت أعمل على تكوين الملك جيداً" (ص 92). "تقدّمتُ بطلب للملك، كي يتمّ إعفاؤهم النصارى من العمل لديه، وهو ما حصلتُ عليه يوم 14 أيلول (سبتمبر) من سنة 1727" (ص 93). في تلك الأثناء "لم يتبق أيّ زاد للإنسان وللماشية التي وصل بها الأمر إلى أن افترستْ بعضها البعض في البوادي، وشرع الناس في أكل بعضهم البعض. كانت الدّروب والطُرُقات التي كُنتُ أسلُكُها كل يوم مغطاة بالجُثث، إذ مات الناس بأعداد كبيرة إلى درجة أنه لم يعد بالمُستطاع دَفْنهم" (ص 95).
رغبة الملك في تحرير الأسرى
"عندما رأى الملك الحال المُزرية لشعبه(...) قرر الملك تحرير النصارى كلهم شرط أن يأتى مَنْ يسأل عنهم فقط" (ص 96). "ذهبوا (زوجي ومرافقه) يوم 5 تشرين ثاني (نوفمبر) 1737، وفي العاشر من الشّهر نفسه، وصلوا إلى طنجة لدى الباشا الذي أودَعَهم السجن" (ص 97). "بمُجرد ما غادر زوجي، توسّلت إلى الملك، كي يوافق على إعطائي جرايتي(...) وكان في خدمتي يهودية ونصراني. سرّحتُ خادمتي، وتوسلتُ إلى الملك، كي يُوفّر لي أربعة نصارى(...) أذن لي الملك باختيار عدد أكبر من النصارى" (ص 98). "زوَّدني الملك بمسدس، وبكمّية من البارود والرصاص، وأيضاً بهراوة، كما أذن لي بقتل أيّ شخص يتحرَّش بي لسرقتي(...) اعترض طريقي بعض قطّاع الطُرق(...) فحين رأيناهم، رميناهم للتّوّ بالرصاص" (ص 99).
لم يتبق أيّ زاد للإنسان وللماشية التي وصل بها الأمر إلى أن افترستْ بعضها البعض في البوادي، وشرع الناس في أكل بعضهم البعض. كانت الدّروب والطُرُقات التي كُنتُ أسلُكُها كل يوم مغطاة بالجُثث، إذ مات الناس بأعداد كبيرة إلى درجة أنه لم يعد بالمُستطاع دَفْنهم
وتحدثنا ميتلن عن فشل المفاوضات لإطلاق سراح الأسرى الهولنديين، "وفي الأخير، قرّر الملك منْحَنا حُرّيّتنا، أنا وزوجي وطفليّ ومعنا بعض الأشياء الثمينة كهدايا" (ص 100). ولكن "تمّ إلقاء القبض على الملك في مُنتصف الليل، ووُضغت له الأصفاد، فوجدنا أنفسنا مرّة أخرى بلا ملك" (ص 101). ووضعت تحت حماية واحد من الباشوات، "إلى غاية مجيء ملك جديد" (ص 102). "غادرْنا مكناس يوم 2 تموز (يوليو) من سنة 1738، وفي اليوم الخامس من الشهر نفسه، وَصَلْنا إلى المعمورة، وهي الأخرى ميناء بحري، يوجد على مقربة من مدينة سلا، حيث وجدتُ زوجي ورفيقه اللذَيْن رحّبا بي أنا وأسرانا الهولنديّيْن الذين شكروه بسرور كبير. توصّلنا بخيام لقضاء ليلتنا(...) لكنهم (الأسرى الهولندويون) لم يتركُونا بسلام، فكانوا يسعون جاهدين إلى إقلاق راحتنا شيئاً فشيئا" (ص 103). "كانت تُقيم في بيت الباشا يهودية دخلت الإسلام، ألّبها ذلك اليهودي (الذي قادنا) ضدّنا " (ص 104).
اقتيدت بعد ذلك ميتلن وزوجها وأطفالها إلى الباشا، فقال بعض الأسرى الهولنديين مُتشفِّين: "عاهرة الملك هذه ستُحرق الآن. إن لم ترِد إعطاء المال والحلي، ستُحرق، ستُحرق، ستُحرق. لكن الباشا استقبلْني بودّ، ودعوت الله أن يُعجِّل بحصولي على حُرّيّتي(...) ولم يتسببوا لي في أيّ محنة عن قصْد، وقدّموا لي الطعام والشراب" (ص 105). مع ذلك، ذاقت ميتلن الويلات من قبل اليهودي، ويهودية أخرى ألبها ضدها، قصد الحصول على المال، لكن دون طائل. ويبدو أن الباشا كان في صفها، إذ عاملها كما لو أنها ليست أسيرة، وتمنى لها الحرية وأن يتوصل إلى اتفاق مع القبطان الهولندي.
حُكم مولاي المستضيء
بعد أربعة أيام، تمّ اقتيادُنا إلى المعمورة، "في الرابع من آب (أغسطس) كان مولاي المستضيء قد دخل إلى القصر مَلِكاً(...) وَصَلنا إلى مكناس يوم 21 آب (أغسطس) من سنة 1738(...) غداة ذلك، اقتيدوا إلى الملك، الذي منح لكل واحد من نصارانا محلاً متواضعاً بالقصر، من أجل حراسة المخزن، وشرعْنا في العَمل. لكن زوجي أُعفي من العمل، فلم يكن لنا أيّ دخل يُوفِّر لنا طعامنا" (ص 109).
"تركَني النصارى حينها، في سلام، إلى حدّ ما، لكن ذلك لم يدُمْ طويلاً. لأنهم حينما عادوا من الجيش رفقة الملك، قاموا بالمستحيل من أجل أن ينتزعوا منّي الحانة، أو يمنعوني من الاشتغال بها" (ص 110). في أثناء ذلك، طورت ميتلن علاقة متينة مع أمّ الملك وأخته، "وما كدتُ أخرج من باب البيت المَلكي، حتّى وجدتُ الناس كلهم في الطريق يهتفون بصوت عالٍ: يحيا الملك عبد الله" (ص 113).
حُكم مولاي عبد الله
بعد أيام قليلة "عادت والدة الملك عبد الله إلى القصر كي تتولىّ أمر المملكة ريثَما يعود إبنها. ذهبت فوراً إليها من أجل تقديم التهاني إلى العرش" (ص 114). "جاء الملك عبد الله بُعيد ذلك، واستدعى على الفور، النصارى كلهم، ودعاهم إلى العمل على وجْه السرعة" (ص 115). "لقد كان أحسن ملك للبلد في نظر الجميع، لكنه كان يُكرِه النصارى على العمل بقسوة(...) لقد كان مستبداً كبيراً بشعبه، فلم يكن يتباهى سوى بولايتَي حكمه الأولى والثانية، لأنه قد قَتَل خلالهما 14000 شخصاً. وها هو يُنصّب للمرّة الثالثة، ملكاً خلال أربعة أشهر فقط، وها هو ذا يهرب إنقاذاً لحياته، فذهب إلى فاس(...) وهكذا تمّ الإعلان عن تنصيب ملك آخر جديد، يُدعى مولاى زين العابدين" (ص 116). و"عاد مولاي عبد الله ملكاً للمرّة الرابعة في شهر كانون أول (ديسمبر) من سنة 1741 متخذاً من فاس مقراً لإقامته. وأصدر الأمر للنصارى كلهم، كباراً وصغاراً، بالالتحاق به دون استثناء، ما تسبَّب لنا في حُزن كبير، لأنه كانت لنا بمكناس منازلنا وتجارتنا(...) ذلك كله ظلّ غنيمة بالنسبة إلى المسلمين" (ص 117). "في اليوم الثالث، صدر الأمر المَلَكي الصريح وقضى بأنه ينبغي عليّ البقاء مع ابنَيّ، أما النصارى الآخرون، فكان يتوجّب عليهم الذهاب إلى فاس" (ص 118).
مولاي المستضيء ملكاً جديدا لمرة ثانية
أياماً بعد ذلك، "تمّ خَلْع الملك عبد الله مرّة أخرى(...) وتمّ الإعلان عن مولاي المستضيء ملكاً جديدا لمرة ثانية. لم أُضيِّع وقتي، وذهبتُ مجدّدا إلى القصر من أجْل أن أقدّم تهاني إلى أمّ الملك(...) ألحَّت عليّ أمّ الملك وأختُهُ كثيراً في دخول الإسلام" (ص 120 ـ 121). "انتشار الطاعون في المدينة يوم 13 من حزيران (يونيو) 1742، وكان يحصد كل يوم 100 قتيل وأكثر" (ص 122). "خمسة عشرة يوماً بعْد ذلك، وصل رقّاص (ساعي المدينة) ومعه رسالة من التاجر دون لويس تايلر حاملاً لنا أسْعَدَ خبَر؛ فحواه أن القبطان لومبري، قبطان السادة الكبار اشترى من الباشا الأسرى الهولنديّيْن الذين كانوا يوجدون في طنجة، كما اتفق معه على أن يرسل إليه، في ظرف ستة أسابيع، الأسرى الموجودين لدى الملك في مكناس" (ص 125).
الافتداء والعودة إلى الساحل
"وهكذا حصلنا على حُرّيّتنا نحن الأربعة عشر الذين كنّا هناك" (ص 126). "شرعنا في سَفَرنا في يوم 16 كانون أول (ديسمبر) من سنة 1742، وأُجبرنا على القيام بدورات كبيرة، عبْر طُرُق غير آمنة، تجنُّباً من الوقوع في قبضة مولاي عبد الله، وإلا سنظل في الأسر مع مَنْ بقوا" (ص 127). "وصلنا يوم 30 كانون أول (ديسمبر) من سنة 1742 لدى الباشا، الذي استقبلنا بطلقات بنادق. وزوَّدنا بخيمة فخمة، تمكنّا من قضاء ليلتنا تلك تحْتها كُلنا" (ص 128).
غادرْنا بورتسموث يوم 14 أيلول (سبتمبر) من سنة 1743، ووَصَلْنا يوم 18 أيلول (سبتمبر) سالمين معافين إلى طيكسيل، وفي يوم 21 وَصَلْنا إلى أمستردام بعد غياب دام 20 سنة
"في المساء لليوم الموالى، قبل غروب الشمس، وصلنا إلى سهل كبير، نُصبت به الخيام، حيث خلدْنا للراحة(...) في يوم 1 كانون ثاني (يناير) من سنة 1743(...) أحضرنا كلّنا أمامه (الملك...) قال لأولئك الناس: "في الحقيقة، هذه المرأة النصرانية جديرة بأن تكون مَلِكَة". استأنَفنا السِّيْر مُجدّداً في اليوم الثاني عشر من السنة الجديدة، واصَلْنا سفَرَنَا دون حدوث أي أخطار تذكر، عبْر جبال، وسلكْنا مناطق متوحّشة، غابات وأودية وأنهار منحرفة عن مجاريها(...) " (ص 129 ـ 130). "استأنفْنا رحلتنا في صباح اليوم الموالى، وكانت الطريق ما تزال خطيرة جداً" (ص 131). "وأخيراً، في المساء، وَصَلْنا إلى مدينة تطوان التي كانت ما تزال تبتعد عن البحر بحوالي ساعتين، تمّ إيواؤنا بمنزل قنصل بريطانيا، حيث مَكَثْنا هُناك ثلاثة أشهر وخمسة أيام. بسبب عدم وجود باخرة تقلّنا من هناك. لم تصل أيّ باخرة بسبب الموت الرهيب الذي كان مستحفلاً بالبلاد" (ص 132).
رحلة العودة
وأخيراً بعد زوال يوم 11 نيسان (أبريل) من سنة 1742 ركبْنا السفينة" (ص 135). "في ليلة 12 و13 نيسان (أبريل) من سنة 1743 أبْحرْنا بعْد أن أدّيْنا الواجب، وأبْحرنا في المياة الإسبانية، ثمّ في البحر المتوسّط، وبعد مرور شهر، وجدْنا أنفسَنا مجدّداً بمرفأ طنجة" (ص 136). "وفي يوم 20 حزيران (يونيو)، وَصَلْنا إلى لشبونة بُغية التِّزوّد بالمُؤن(...) تمّ إنزالنا، إذنْ، في لشبونة، ووُضعْنا في المستشفي الهولندي، حيثُ أمْضينا به تسعة أيّام، حين دخلتْ سفينة أخرى إلى المرفأ، كانتْ رحلتها البَحْرِيّة قد انتهت، وكانت ستُبحر نحو هولندا، فركبْناها(...) كان يتوجّب علينا الإبحار عكس اتّجاه الرياح، إذ إنّنا أُجبِرْنا على الدّنو من إنجلترا ببورتسموث، حيث تزّودْنا بالمُؤن(...) غادرْنا بورتسموث يوم 14 أيلول (سبتمبر) من سنة 1743، ووَصَلْنا يوم 18 أيلول (سبتمبر) سالمين معافين إلى طيكسيل، وفي يوم 21 وَصَلْنا إلى أمستردام بعد غياب دام 20 سنة" (ص 139 ـ 141).
وتختم ميتلن روايتها بالقول: "لا أتحسّر على أني كُنتُ في ذلك المكان البعيد من العالم، ولا على 12 سنة من الاستبعاد، ولا على الأذى الذي سبَّبه لي المغاربة. ذلك كله يمكنني نسيانه، لكنّ ما لن أنْساه هو الإهانات والشتائم التي كنّا عُرْضة لها أنا وزوجي، من قبل إخواتنا أبناء الوطن، من الصعب عليّ أن أحكي هنا كل ما ألحقوه بنا من سوء" (ص 141).
إقرأ أيضا: رحّالة هولندية تروي جزءا من تاريخ المغرب في القرن الـ18 (1من2)