* وقائع الإنسان الطبيعي:
"سعل الرئيس قليلا، ثم سألني بصوت خفيض جدّا إن كان لديَّ ما أضيفه.
نهضتُ، ولأنني كنتُ أشعرُ بالرغبة في الحديث قلتُ، دون أن أنتقيَ كلماتي، إنني لم
تكن لديَّ النية لقتل العربي.
أجاب الرئيس بأن ذلك مجرد
قول، وأنه حتى الآن لم يكن يفهم جيّدا منطقي في الدفاع، وأنه يسعدُه قبل أن يستمع
إلى ممثل الدفاع عنّي أن يتيح لي فرصة إيضاح الدوافع التي أوحت لي باقتراف جريمتي.
قلت بسرعة – بشيء من التشويش، مدركا ما ينطوي عليه الموقف من سخرية- لقد حدث ذلك
بسبب الشمس".
هكذا يصف (ميرسو) لحظة من لحظات محاكمته التي
انتهت بالحُكم عليه بالإعدام بالمقصلة في رواية (الغريب L'Etranger) لألبير كامو
الذي تحلّ الذكرى الستون لوفاته اليوم في 4 يناير 1960.
تبدأ الرواية التي تدور أحداثُها في الجزائر
بالبطل الذي يروي الأحداث من وجهة نظره بصيغة المتكلم، وقد وصله خبر وفاة أمِّه في
إحدى دُور المُسِنِّين. يأخذ إجازة من عمله ويسافر إلى مارينجو (حَجُّوط حاليّا)
حيث تقع الدار، ويشارك في جنازة أمِّه بينما لا يُبدي أي شكل من أشكال التأثُّر
العاطفي، وهو حياد يلاحظه كلُّ من في الدار، مِن أوّل المدير إلى البوّاب، مرورا
بصديقات أمِّه وصديقِها الحميم (توماس پيريز) الذي كان زملاؤهما نزلاءُ الدّار
يسمونه خطيبَها.
في اليوم التالي يستأنف
(ميرسو) حياتَه بشكل طبيعي، فيذهب للسباحة، ويقيم علاقة حميمة مع (ماري كاردونا)
زميلته السابقة في المكتب الذي يعمل به، ويذهبان إلى السينما لمشاهدة فِلم كوميدي
لـ(فرناندِل Fernandel).
وفي المنزل يتقاسم الغداء مع
جاره (ريمون) الذي يقولون عنه إنه قَوّاد، ويُسِرّ له الأخير بغضبه من عشيقته
العربية لاعتقاده أنها تخونُه، كما يطلب منه مساعدتَه في الانتقام منها، ويوافق
(ميرسو) فيكتبُ رسالة إلى العربية يمليها عليه (ريمون) يدعوها فيها إلى العودة،
والنيّة التي يبيّتها (ريمون) وأَطلَعَ عليها (ميرسو) أن يمارس الجنس مع العربية،
حتى إذا وصلَت إلى قمة اللذة بصق في وجهها وطردها.
ويحدثُ ما يخطط له (ريمون)
بالفعل، لكنّ العربية تصفعُه، فيعتدي عليها بالضرب المبرّح، ثم تشكوه إلى الشرطة
فيُضطَرّ للذهاب ويوعز إلى (ميرسو) بالشهادة في صفّه، ثم إن (ريمون) يدعو ميرسو
وصديقته ماري لقضاء يوم في المنزل الشاطئي لصديقه (ماسون) وزوجتِه. يذهبون بالفعل
ويقضون يوما يبدأ لطيفا للغاية، لكن ما يلبث ريمون أن يكتشف أن أخا عشيقته العربية
قد تبعهم إلى هذه البقعة على الشاطئ ومعه صديقه. يشتبك الفرنسيان مع العربيَّين
بالأيدي، وتنتهي المشاجرة بجرحين في فم ريمون وساعدِه.
يعود الفرنسيان إلى بيت
ماسون، ثم يتراءى لـ(ميرسو) أن يذهب وحدَه إلى البقعة الصخرية التي حدثت عندها
المشاجرة للاستمتاع بنبع الماء الواقع وراءها، وفي جيبِه مسدس ريمون، وهناك يجد
العربيَّ مستلقيا على ظهره وفي يده سكّين. كان النهار حارّا والشمس حارقة، وكان
ميرسو يشعر بالإعياء. انقبضت أصابعه على زناد المسدس وهو يوجهه إلى العربي فأطلق
رصاصة استقرّت في جسده ثم أتبعها بأربع رصاصات أخرى وأرداه قتيلا.
أُلقِيَ القبض على ميرسو، والجزء الثاني من
الرواية يدور بين السجن وقاعة المحكمة، حيث يروي لنا ميرسو كيفية قضائه وقتَه في
الزنزانة، وطبيعة لقاءاته بقاضي التحقيقات والمحامي الذي عُيِّن للدفاع عنه، ثم
لقاءه بماري حين أتَت لزيارتِه، ثم مداولات المحاكمة التي انتهت بإدانتِه، وأخيرا
لقاءه بالكاهن وقد زاره في الزنزانة دون رغبة من ميرسو، ليحضَّه على الالتجاء إلى
الله بينما ينتظر قبول طلب استئناف القضية.
الملمح الأوضح في الفقرة التي صدّرنا بها
المقال هو أنها تذكِّرُنا بالمشهور عن التيار الطبيعي Naturalism الذي يُعَدُّ
الروائي الفرنسي إميل زولا (1840-1902) رائدَه والمُنَظِّر الأساسي له. لقد ضغطت
أصابع ميرسو الزناد بحركة شبه آليّة، ربما كنتيجة لظروف طبيعية محضة، فالقتل هنا
حلقة في سلسلة من الظواهر تبدأ بحرارة اليوم والتماع أشعة الشمس على نصل السكّين
الذي يمسكه العربي، وتمرُّ بما يشعر به ميرسو من إعياء ودُوار، لتنتهي بهذه
الضغطة. صحيح أنّه يصعُب أن نُدرِج (الغريب) ضمن التيار الطبيعي في الأدب، فهي لا
تغوص في نفسية بطلها ولا مَن حوله من الشخوص، ولا تتبّع ما يعتمل في ذهنه من أفكار
محاوِلة ردَّها إلى أسباب واضحة فيما يشبه التأصيل العلمي الذي بشَّرَ به (زولا)،
بل على العكس من ذلك، يتنصَّل ميرسو – الراوي الوحيد للأحداث – من كل محاولة
لاستبطان دوافعه للقِيام بأي شيء أو تأمُّل مشاعره تجاه أي شيء.
إلاّ أننا دون مِراء أمام
إنسان (طبيعي) تماما في شخص (ميرسو). (طبيعيّ) بمعنى أنه يُمكِن رَدّ أفعالِه
كلِّها إلى مستوى الطبيعة وحدها، دون أي طموح للسموّ فوق هذه الطبيعة. إنه يُقدِم
على كل فعل لمجرد أن يُحِسّ دافعا لحظيّا للقيام به، فهو لا يناقش نفسَه ولا يقفُ
أمامَها معاتبا. هو نفسُه يقولُ إنه لم يشعُر أبدا بالندَم في حياتِه.
حين تسأله (ماري) التي لا يفتأ يذكر كم هي
جميلة إن كان يحبُّها، يجيبُها بصراحة شديدة "لا"، وحين تسأله إن كان
سيتزوجها يقول إنّ ذلك لا معنى له، لكنه لا يمانع أن يتزوجها إن كانت مُصِرّة. إنّ
(ميرسو) يرتدُّ بالعلاقة الحميمة إلى مستوى الحيوانية، ولا يجد غضاضة في ذلك.
* العبثية وطبيعة السرد:
إذا ابتعدنا قليلا عن متن الرواية وتأمَّلنا
ما نعرفه عن فلسفة (كامو) العبثية Absurdism من خلال كتابه (أسطورة سيزيف)، فسنجد أنه يتابع (سورِن كيركجور)
الفيلسوف الدنماركي في كتابه (المرض طريق الموات Sickness Unto Death) في رؤيته
ثلاث طرُق للتعامُل مع عبثية العالَم: الانتحار، وقفزة الإيمان، وقَبول العبث. كان
كيركجور يرى أن الانتحار لا يناقض العبث، بل بالعكس يجعل حياة المرء التي عاشَها
تبدو أكثر عبثية، وكذلك رأى (كامو).
أما قفزة الإيمان فهي القفزة
من عالَم العقل والحقيقة الممكن إثباتها تجريبيّا إلى عالَم بعيد عن الحِسّ،
يتبدّى فيه الله بصِفَته الكائن الوحيد الذي له معنى، أو هو المعنى ذاتُه. هذا ما
رآه كيركجور، أمّا (كامو) فقد اعتبر هذه القفزة انتحارا فلسفيّا ورفضها.
الحلّ الثالث هو ما اعتنقه
(كامو) وبشَّر به: قَبول العبث، وبهذا القبول نتحرر من قيود الدين والأخلاق التي
تواضع عليها المجتمع لأنها بلا معنى، ونؤكد تمرُّدَنا المؤقت على العبث بصناعة
معنى شخصيّ مؤقَّت خلال حياتنا القصيرة التي ستنتهي حتما بالموت الذي يؤكِّد أنّ
للعبث الكلمة النهائية. أما كيركجور فقد اعتبر هذا الحلَّ جنونا شيطانيّا.
عودا إلى الرواية، ثَمّ تراسُل بين أسلوب
السّرد المبني على جُمَل سريعة تميل إلى القِصَر النسبي والحِياد العاطفي وبين
الحدَث المِحوَرِيّ فيها وهو خروج الطلقات من المسدّس إلى جسَد العربي. السَّرد
يشبه الطلقات، لا يقف الراوي خلالَه أمام نفسِه، وإن وقف فهو يعبّر عن الأفكار
الظاهرة على سطح وعيِه "كنتُ أشعرُ بالدُّوار – كنت أشعر بالرغبة في الحديث".
ولأنّه سَرد على هذا القَدر
من الحِياد العاطفي، يمكننا أن نتخيَّل أنه محض مصادفَة كان يمكن ألاّ تَحدُث،
تماما كخروج الطلقات من فوهة المسدس! وسَرد الطلقة هذا يذكّرنا كذلك بأسلوب (إرنست
همنجوِاي) في روايتِه (وداع للسِّلاح)، حيث البطل أمريكيّ وجد نفسَه في حرب أوربية
لا ناقة له فيها ولا جَمل، مُضطَرّا إلى حمل السلاح والدفاع عن نفسه وقتل أشخاص لا
يعرفهم ولا عداوة بينه وبينهم. إنها حَرب فرضَها عليه عالَم عبثِيّ، هو نفس
العالَم المهيمِن على رواية (الغريب)، ويكاد المشهد الذي يقتل فيه ميرسو العربيَّ
يكون حربا مُصَغَّرَة من العالمية الأولى التي وصفَها همنجوِاي في روايتِه!
وفيما يتّصل بالسّرد، ثَمَّ ملمح آخَر مهمّ،
هو اختيار (كامو) لضمير المتكلم يعبّر به عن الأحداث من وجهة نظر بطله، فهو بذلك
جسّد فكرته عن المعنى الشخصي المؤقّت الذي اعتبره الحلّ الوحيد الممكن للخروج من
مأزق العبث، وربما لذلك عبّر (ميرسو) عن دهشته الشديدة إزاء مرافعة محاميه التي
تحدّث فيها بصيغة المتكلم وكأنه هو نفسه مرتكب الجريمة المُدان:
"يقول: (صحيح أنني قد قَتلت)
واستمرَّ على هذه الوتيرة قائلا (أنا) في كل مرة يتحدث فيها عني. كنت مندهشا
للغاية. مِلتُ ناحية أحد رجال الدرك وسألتُه عن السبب في ذلك. طلب مني أن أصمُت،
ثم أردفَ بعد برهة (كلّ المحامين يفعلون ذلك). أما أنا فقد رأيتُ أن ذلك يُبعِدُني
أكثر عن القضية، يحوّلني إلى مجرّد صِفر، وأن المحامي بصورة ما قد حَلَّ محلّي".
هكذا كان تعاطُف المحامي وتماهيه مع موكِّلِه
أمرا غير مفهوم في الإطار الفلسفي الذي انطلق منه (ميرسو) ومبدعه (كامو). ربما
تحيلُنا الفقرة السابقة – والجزء الثاني من الرواية بأكملِه - إلى رواية Bleak House لدِكِنز، حيث
يسفّه المؤلّف إجراءات التقاضي ومداولات قاعة المحكمة وتصرفات المحامين، لكنّ
مُنطَلَق دِكِنز ودافِعَه كان نقد تعقيد الحضارة الذي يغيّب المعنى تدريجيّا عن
الفعل الإنساني لصالِح فِطرة ما - نستطيعُ اكتناهَها من سياق روايته الضخمة –
يناقش فيها المرءُ نوازعَه ويهذّب تصرُّفاته ليغلّب مصلحة الجماعة في إطار رُوحي،
وهو أمر يتبدّى بخاصّة في الفصول التي ترويها البطلة (إستر سمرسن Esther Summerson). بينما
يبدو منطَلق (كامو) هو نقد محاولة الوصول إلى أيّ معنى يتخطّى الفرد.
ولذلك يبدو رفضُ (كامو)
لمحاولات النّقّاد إدراجَه في تيار الوجودية رفضا معقولا جِدّا، فوجوديّة (سارتر)
تشترك مع عبثية (كامو) في انطلاقِها من الاعتراف بعبث العالَم وغياب الغاية في إطار
إلحاديّ، لكنها تحاول تأسيس معنى يخلُقه الإنسان يتجاوز به فرديتَه إلى مشروع
للموجود البشري في عموميتِه، وهو ما يرفضُه (كامو) في إصرار، والفقرة السابقة
إشارة إلى ذلك الرفض.
* جدل الطبيعة والفطرة والحضارة:
إنَّ تأكيد ميرسو المتكرر على أنه لم يشعُر
قَطُّ بالنَّدم يوحي إلينا – في سياق ما قُلناه عن طبيعيَّتِه – بجدَل ثلاثي يتبع
تصوُّر (هيجل) عن القضية Thesis ونقيضِها Anti-thesis والمُرَكَّب منهما Synthesis. هذا الإنسان الذي لا يعود إلى نفسِه يشبه قضيَّة واحديَّة لا تطمح
إلى تطوُّر. هو طبيعة لا تغازلها الفطرة المغروزة فيها، تلك التي تدعو الإنسان
لتأمُّل أفكارِه وتمحيصِها وغربلتِها، وبالتالي فهي لا تصل إلى مُرَكَّب حضاريّ من
الطبيعة والفِطرة/ القضية ونقيضِها. لكننا من جانب آخَر نعرفُ أنّ ميرسو ابنُ
مُرَكَّب حضاريّ مُعَقَّد، فهو فرنسي الأَرومة جزائريُّ المنشأ، يرزح بالفعل تحت
نير تقاليد أوربية عتيقة وميراث حضاري بالغ التركيب، لكنه - في طَليعيّة ثائرة
كمُبدعِه (كامو) – يرفض هذا الإرث ويعود إلى الطبيعة دون أن يمُرّ بالوسَط الضائع
في شخصيّته بين الحدَّين: الفِطرة.
* الأمّ والصمت والموت:
للموت في هذه الرواية حضور بالغ العُمق
والكآبة. في الجزء الأول من الرواية – قبل واقعة قتل العربي – يتذكّر (ميرسو) وفاة
أمِّه كلَّ حِين أو يذكِره بها الآخَرون، كأنه يُصِرُّ أن تكون وفاتُها خلفية
للأحداث حتى من قبل أن ترتبط ذكرياتُ جنازتها بحكم إدانتِه. وفي جنازتِها يقول له
البوّاب:
"من الضروري أن ندفنَها بأسرع ما
يمكن لأن الجوّ في الوادي شديدُ الحرارة خاصة في هذا البلَد. في باريس يتم البقاء
مع المتوفَّى ثلاثة أو أربعة أيام أحيانا، أما هنا فليس ثمّة وقت لذلك".
هذه الجملة الخاطفة فيها إشارة ضِمنيّة إلى
موقف الأوربيين من الموت وموقف الشرقيين منه. كأنّ الأوربيين يتمهّلون الموت ولا
يصدّقونَ مجيئه بسهولة، بينما الناس في هذه البقعة الصحراويّة يتقبلونه في سرعة
كأنه ليس نهاية المطاف، وإنما مجرد حلقة في وجود يمتدُّ إلى الأبد. بالطبع تردُّنا
هذه الفقرة إلى ما أسلَفنا قولَه بخصوص المذهب الطبيعيّ، فكأن رؤية الشرق والغرب
للموت مرَدُّها إلى ظروف البيئة فقط، إلاّ أنّ أمرا آخَر مذكورا في عُجالة هنا
يلقي بضوء آخر على هذا المعنى. هذا الأمر هو قول مدير الدار لميرسو: "إن
الوالدة على ما يبدو قد أعرَبَت لرفاقِها مرارا عن رغبتها في أن تدفن وفق الطقوس
الدينية." وتعليق (ميرسو) على ذلك "لم تكن أمي – رغم أنها لم تكن ملحدة
– لتأبه في حياتها بأمور الدين مُطلَقا".
هكذا يبدو أنّ ثمّة تغيُّرا ما قد حدث في
أولويّات وقناعات الأم قبل وفاتِها، وأنّ (ميرسو) الابن لم تكن لديه الفرصة ليعرف
بهذا التغيُّر. في ثنايا الرواية يشير مرارا إلى الصمت الذي ساد علاقته بأُمِّه
قبل أن يُودِعَها دار المُسِنِّين، حيث لم يعُد لدى أحدِهما ما يقولُه للآخَر، وفي
لقطة شديدة البلاغة من الفصل الثاني من الجزء الثاني من الرواية، يصف (ميرسو) مشهد
استقبال المسجونين لأقاربهم في الزيارة الدورية، والصخَب المتّصِل المصاحِب لهذه
الزيارة فيقول: "كان الهمس والصُّراخ والأحاديث المتبادَلة تتقاطَع. جزيرة
الصمت الصغيرة الوحيدة كانت إلى جِواري، لدى ذلك الشابّ الصغير وتلك السيّدة
العجوز اللذَين كانا يتبادلان النظر".
هذا المسجون الشابّ وأمُّه
يمثلان انعكاسا حَيّا لعلاقة البطل وأُمّه التي ملأها الصمت. نقول ربما كتم
(ميرسو) عنّا حنينا عميقا لديه إلى أن يستمع إلى أمه قبل موتها ويعرف منها ما
تغيَّر لديها وما كانت تُحِسُّه. لا نستطيع الجزم، إلا أن هذا يبقى احتمالا وجيها
له ما يبرره، ويُلقي بضوء مُغاير نستطيع من خلالِه أن نشعُر ببعض الإشفاق على
(ميرسو) الطبيعيّ!
ملمح آخَر له علاقة بالصمت في الرواية. إنه
صمت العرَب. في مشهد الشجار بين ريمون وماسون وميرسو من ناحية، والعربيَّين من
ناحية، يقول أحد العربيَّين جملة لا يستطيع ميرسو سماعَها، ولا يتكلم أحدهما بشيء
بعد ذلك. وحين يعود الفرنسيون إلى الصخرة ونبع الماء يجدون أحد العربيَّين يصفر في
قطعة غاب يستخرج منها ثلاث نغمات يكررها باستمرار، والآخر صامتا، وحين يسأل ريمون
صديقَه البطل "هل أقتلُه؟" يجيبُه (ميرسو): "إنه لم يقل شيئا إلى
الآن، وسيكون من العار أن تُطلِق النار عليه هكذا".
لكنّ القدَر أراد أن يعود ميرسو وحيدا إلى نفس
البقعة الصخرية تحت الشمس الحارقة، ويقتل نفس الشخص العربي الصامت الذي نصح صديقَه
بألاّ يندفع إلى قَتلِه مِن قبل.
فإذا قفزنا ثانية إلى مشهد زيارة المسجونين،
فسنجد جملة عابرة في وصف ميرسو: "كانت همهمةُ العرب متواصلة مِن
تحتِنا." إنها مجرد همهمة لم يتبيّن منها شيئا. ربما هذا ما دفع الروائي
الجزائري (كامل داود) فيما بعد إلى أن يكتب روايتَه (محاكمة ميرسو) التي يُنطِق
فيها عرَب رواية (كامو) ويتبنى وجهات نظرهم.
إننا أمام بطل تراجيديّ كأبطال إيسخيلوس
وسوفوكليس، حكمَ عليه القدَر بأمر واضح: أن يُواجَه بالصمت فلا يحاول أن يفتضّه
ويعرف ما وراءه ويتواصل مع الآخَر. فالأمُّ الصامتة تُودَع دارَ المُسِنِّين،
والعربيُّ الصامتُ يُقتَل. لكنّ (أوديپ) مثَلا كان يدرك أنّ الآلهة قد فرضَت عليه
هذا المصير الشقيّ، بينما ميرسو وهو يسترجع أحداث مشهد القتل يقول: "أطلقتُ
من جديد أربع رصاصات على جسد هامد، غاصت فيه دون أن يبدو لها أثَر.
كانت كأنها أربعُ طرقات
قصيرة، كنتُ أَطرُقُ بها بابَ الشقاء." إن إدراكه لا يخرج خارج حدود نفسه،
فهو الذي يَطرُقُ باب الشقاء، وأي حديث عن إله هو بالنسبة له مَضيَعة للوقت، سواء
مع قاضي التحقيقات فيما بعد، أو مع الكاهن الذي يزوره قبل نهاية الرواية.
* الضوء والحقيقة بين كامو وسارتر:
ثَمَّ تقاطُع آخَر لهذه الرواية مع نص مؤسس،
يتمثّل في الضوء الشديد الحاضر بقوّة في المشاهد التي يحضُر فيها الموت. ففي جنازة
الأم وفي مشهد قتل العربي تلفح الشمس ميرسو بضوئها وحرارتها، وحين يجلس ميرسو ليلا
إلى جوار جثة أمه في الغرفة المغلقة يجد النُّور مُضاء يغمر الغرفة: "سألتُ
الحارس إن كان من الممكن إطفاء أحد هذه المصابيح. كان التماع الضوء فوق الحوائط
ناصعة البياض يُتعبني. أخبرني أن ذلك غير ممكن. فالتوصيلات الكهربية قد أُعِدَّت
على هذا النحو: إما كل المصابيح أو لا شيء."
التقاطع الذي نعنيه هنا مع
مسرحية سارتر (الأبواب المُقفَلة)، حيث الغرفة التي يجتمع فيها الأبطال في الجحيم
مضاءة على الدوام، يواجهون فيها الحقيقة طيلة الوقت كما يواجه ميرسو حقيقة الموت
هنا.
بالطبع كان توظيف سارتر لهذه
التفصيلة أقوى وأكثر ارتباطا بفلسفته ودقائقها – لاسيّما رأيه في النظرة Regard التي تمثل الضغط
المجتمعي على الفرد بكل مستوياته (الجحيم هو الآخَرون) – إلاّ أننا نجد حتى في فرق
توظيف سارتر وكامو لمسألة الإضاءة الدائمة انعكاسا للاختلاف بين فلسفتيهما،
فالإضاءة التي لا تنطفئ في مسرحية سارتر تدفع الجميع إلى المعاناة، حيث يؤمن سارتر
بإمكانية خلق معنى إنسانيّ عامّ يتشارك فيه الجميع هربا من جحيم العبث، أمّا شمس
الصحراء وإضاءة الغرفة فلا تعذبان إلا (ميرسو) – أو هذا ما نفهمه من الرواية إذ لا
نسمع إلا صوتَ هذا الأخير – لأنّ حقيقة الموت التي عليه أن يواجهها لا تخُصُّ أحدا
سواه، فالعبثُ في عالَم مغلق عليه، والمعنى الممكن الوحيد هو الآخَر مغلق عليه
وحدَه!
* ختام- جزائر ميرسو وحده:
انتهاء، تبدو الجزائر التي طالما عبّر (كامو)
خارج إطار الرواية عن حنينه إليها وإلى أيامه فيها جزائر أخرى غير التي نعرفها في
بقعتنا هذه من العالَم. إنها جزائر (ميرسو) وحدَه، حيث يستمتع بالطبيعة ولا شيء
سوى الطبيعة. ورغم ما نعرفه عن وقوف (كامو) مع قضية استقلال الجزائر إلا أننا
نتصور أنّ هذا الانحياز من جانبه كان انطلاقا فقط من إيمانه بالفرديّة وحق تقرير
المصير (نسخة قومية من الحلّ الوحيد الممكن في فلسفته لمشكلة العبث: خلق المعنى
الشخصي المؤقت)، وليس تأثرا بثقافة عربية أو بربرية موجودة في جزائرنا.
إن الرجل لم يكن يسمع من
العرب إلا همهمة. كان (ميرسو) متمركزا أوربيا Eurocentric، رغم ثورته
الطليعية على إرث حضارة أسلافه. كل ما في الأمر أنه تخلص من عبء الرجل الأبيض
الاستعماري الذي تغنى به شاعر بريطانيا الاستعمارية القدير (رديارد كپلنغ Rudyard Kipling). أما
الجزائر الحقيقية، فلنا أن نلتمسها في إبداع آخَر، ليس منه (ميرسو) في شيء، إلا كما
يقترب (الغريب) من الصخرة ليقتل العربي، ثم يبتعد.
رواية "شجاعة طائر الحنّاء" تسرد عنف الكنيسة الغربية