سألني أحد الشباب في ندوة حول
الثورة التونسية: أستاذ هل بدأت الثورة تأكل أبناءها؟ فأجبته: بل إن بعض الأبناء بدأوا يأكلون الثورة.
أقرأ كل مرة خبر انضمام "مثقف" إلى حزب ما.. ويكتب "مثقف" آخر بيانا يبين فيه سبب تلبيته نداء منادٍ سياسي ما.. قال أحدهم مُبررا تحزبه: "خسرت نفسي وربحت تونس".
ليس ثمة ما يمنع اشتغال المثقف بالسياسة، بل تلك من بين اهتماماته، ولكن ثمة فرق بين الاشتغال في السياسة وبين الاشتغال لدى الأحزاب السياسية، وذلك حين يُصبح "المثقف" صوتا مترجما لتوجهات حزب سياسي ما ومهاجما شرسا لخصومه، وبمفردات مستجمعة من قاموس تعافه الذائقة السليمة وتمجه المعايير الجمالية والإبداعية.
أعتقد أن من أخطر مهام المثقف هي المهمة النقدية التي يقوم بها تجاه الواقع وتجاه أداء السياسيين (كل السياسيين)، لكون الثقافة أرحبَ من السياسة، ولكون المثقف يشتغل على المعاني والقيم وعلى الأشواق الدافقة، وهو الدافع باستمرار نحو مستقبل دائم أرقى وأنقى... فإذا كانت السياسة هي فن التعامل مع الممكن، فإن الإبداع هو فن الدفع نحو المستقبل.
يحتاج السياسي وهو في غمرة "اليومي" و"الآني" إلى قوة نقدية عاقلة مسؤولة شجاعة وصادقة؛ تدله على مكامن الخطأ والخطر وتكشف له المسالك الأقوم. "المثقف" لا يبخل بأفكاره ورؤاه عن أي سياسي أو أي حزب.. إنه يشتغل في المعنى وإنه المتمثل للمواطنة والوطنية بل ولـ"الإنسان".
لا نستغرب تدافع وتغالب الأحزاب وصراعاتها، بل وننتظر منها أن تنحدر أحيانا إلى حالة من الـتآمر والتآكل وإلى حرب الإشاعات، ولكن لا يُنتظر من "مثقف" أن ينخرط في مثل تلك "المعارك" إلا على أساس المنتصر للمصلحة الوطنية وللمستقبل الذي يتمثله في ذهنه وفي روحه، وإلا على أساس المُعدّل لأدوات المعركة تلك والملطف لانفعالاتها، والدالّ إلى مواطن الالتقاء وحظوظ التوافق من أجل الوطن ومصلحة الناس ومن أجل مستقبل بناتنا وأبنائنا.
كثيرا ما يتصالح ويتحالف السياسيون بعد معارك طاحنة وبعد حروب كلامية جارحة، ثم تبقى مواقف "المثقف" خارج سياق المعرفة وخارج دوره النقدي المأمول.
إن "السياسة" عند محترفيها هي فنون المغالبة والمحاصصة، وهي في النهاية تعبير عن نوازع "التحكم"، وأما عند المثقف فهي أرقى "الفنون" بما هي فعل إبداعي في واقع اجتماعي معقد متحرك ومتنوع. ومفردة "السياسة" حبلى بمعاني التلطف والترفق والمرافقة والعناية والرعاية والمعالجة والتوجيه والترشيد، ولا علاقة لها بما تلبّسها من مؤامرات وفتن وتقاتل وبطش وأحقاد وعنف ونفاق وجشع ولصوصية.
إن بعض
المثقفين (وهذا البعض كثير) خسروا أنفسهم وسيخسرون "أوطانهم" حين يكونون طرفا في صناعة الفوضى، وفي إنتاج الأحقاد والنوازع الانتقامية، وحين يقبلون بدور "حُرّاس الأحزاب" يقفون على أبوابها يصُدون وبشراسة وغلظة كل مختلف ومخالف، سيخسرون مكانتهم وسيكونون في عِداد "أكلة الثورة" وفي قائمة "العاقين" للمعنى ولـ"الإنسان" وللمستقبل.
المشهد السياسي اليوم في تونس وبعد تسعة أعوام من نعمة الحرية؛ بدأ يفقد الكثير من مقومات العمل السياسي، وكأنه بدأ يغرق في أوحال بيئة ملوثة سياسيا وثقافيا وأخلاقيا، حتى افتقد الناس المعايير والضوابط وانطمست أمامهم العلامات التي يمكن الاهتداء بها.
السياسيون جميعا واقعون تحت كوابيس "الزمن السياسي" وتأويلات "الشرعية" و"الديمقراطية"، والناس متوجسون فعلا من أن تخرج البلاد عن مسار "السياسة" ولتدخل منطقة "الضباب".
عندها، فإن كثيرا من المثقفين سيكونون متهمين بالمساهمة في "أكل الثورة".
يعي المثقفون أنه كلما اتسعت دائرة الخصوم كلما تأكد فشلنا، وتأكد عقم أساليبنا في التواصل والتبليغ.
ليس في الترفع الأخلاقي وفي التجاوز عن أخطاء الآخرين ضعف أو انهزام أو "إدارة خد أيسر"، بل في ذاك الترفع ثقة بالنفس وشعور بالمسؤولية، وانسجام ذهني ونفسي وخطابي مع مشروع نبشر به وندعو الناس إليه؛ نقول إننا نخدمهم به ونحقق لهم ومعهم العدالة والسعادة والاستقرار وفلاح الدنيا والآخرة.
أصحاب المشاريع الإحيائية والرسالات الكبرى لا ينتصرون لذواتهم، وإنما ينتصرون لرسالاتهم ولمشاريعهم الإحيائية، تماما كما كل الأنبياء والفلاسفة وكبار المصلحين.
إن المشاريع الكبرى تهزمها الأنفس الصغرى، وإن المبادئ الجميلة تشوهها الخطابات البذيئة، وإن قلوب الناس هي منصات نحو النجاح ونحو الحق والحقيقة ونحو الله.