لم تفلح مليارات الدولارات التي يضخها كفلاء نظام عبد الفتاح السيسي في الحفاظ على جاذبية وسائل
الإعلام المصرية التي تعمل من داخل مصر، والتي تنتقل من "درك إلى درك أسفل" على سلم مؤشرات حرية الصحافة عالميا، حيث تراجعت نقطتين لتقبع في المرتبة 163 عالميا، ولتستقر في المنطقة السوداء التي تضم الدول الأكثر انتهاكا لحرية الصحافة في العالم.
من الطبيعي أن يتراجع الإعلام المصري على هذه المؤشرات الدولية بسبب حالة العسكرة الشديدة التي يعيشها منذ انقلاب الثالث من تموز/ يوليو 2013 وحتى الآن، والتي بلغت ذروتها في العام 2019، وهو ما دعا المرصد العربي لحرية الإعلام لعنونة تقريره السنوي حول أوضاع حرية الإعلام في مصر والذي أطلقه أمس السبت؛ بـ "إعلام الضباط".
"إعلام الضباط" ليس المقصود به الإعلام الذي تديره هيئة الشؤون المعنوية في القوات المسلحة، وهي الهيئة المختصة بالإشراف على المجلات والصحف والبرامج التي تخص القوات المسلحة، مثل مجلة النصر والمجاهد والبرامج التلفزيونية المتعلقة بالقوات المسلحة، ولكن المقصود هو الإعلام التقليدي سواء كان ملكية عامة أو خاصة، والذي أصبح في قبضة الضباط وتحت إدارتهم، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر. وقد توسعت تلك الهيمنة العسكرية على وسائل الإعلام خلال السنوات الثلاث الماضية، وأصبحت المخابرات العامة والحربية تدير بشكل مباشر غالبية القنوات الفضائية الخاصة بعد نقل ملكية الكثير من القنوات من أصحابها الأصليين، مثل شبكات قنوات الحياة لصاحبها السيد البدوي، وشبكة قنوات سي بي سي لصاحبها محمد الأمين، وشبكة قنوات النهار، إضافة إلى تأسيس شبكة قنوات دي إم سي بشكل مباشر من خلال ضباط على رأسهم عباس كامل (أو هكذا هو المثبت في الأوراق الرسمية لعقد التأسيس).
لم تعد ملكية الأجهزة الأمنية للقنوات والمواقع الإلكترونية والصحف محل شك، أو حتى خجل، بل يفاخر الكثيرون بالعمل في قنوات المخابرات علنا، ويتسابق بعض رجال الأعمال من ملاك القنوات الخاصة لعقد شراكات مع هذه الجهات الأمنية تحفظ لهم حضورا ولو رمزيا في القنوات، مقابل وقف الملاحقات التي يتعرضون لها في أنشطتهم التجارية والاستثمارية الأخرى. ولكن رغم كل هذه الترتيبات وسحب الإعلاميين من القنوات العادية إلى قنوات المخابرات بهدف توسيع انتشارها وتأثيرها، إلا أنها فقدت بريقها، وجاذبيتها، وخسرت غالبية مشاهديها الذين انصرفوا إلى قنوات المعارضة التي تبث من خارج مصر، أو القنوات العالمية المعنية بالشأن المصري.
مظاهر العسكرة للإعلام المصري في 2019 والتي رصدها تقرير المرصد العربي كثيرة ومتشعبة، منها الاستعانة بالفريق محمود حجازي، رئيس الأركان السابق وصهر السيسي (والذي كان مبعدا لبعض الوقت)، في إدارة الملف شريكا لعباس كامل الذي انفرد بالإدارة لفترة طويلة؛ تمكن خلالها من نقل غالبية القنوات الخاصة إلى ملكية الشركات التابعة للأجهزة الأمنية، ومنها تنقلات لعدد من الضباط صغار ومتوسطي الرتب الذين يشاركون في إدارة أوالإشراف على المنظومة الإعلامية التابعة للمخابرات، وكذا حركة تنقلات لكبار الإعلاميين والمعدين في تلك القنوات بهدف تحسين أدائها واستعادة ثقة المشاهدين فيها.
كانت النقلة الكبرى في 2019 هي إعادة وزارة الإعلام من باب خلفي، حيث ألغى الدستور المصري هذه الوزارة وحل محلها المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام، الذي يرأسه حاليا مكرم محمد أحمد. وقد جاءت عودة وزارة الإعلام في شكل وزارة دولة كخطوة على طريق استعادة دورها كاملا بعد إجراء التعديلات الدستورية الضرورية لاحقا. والهدف من إعادة الوزارة هو القيام بدور ضابط الإيقاع للمنظومة الإعلامية التي تشتت بين القبائل، حيث هناك العديد من المجالس والمكاتب التي تتداخل في إدارتها، سواء المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام أو الهيئتين الوطنيتين للصحافة والإعلام، أو الهيئة العامة للاستعلامات، أو المكاتب الإعلامية في قصر الإتحادية أو المخابرات العامة والحربية والأمن الوطني.. إلخ، ناهيك عن أن وزارة الإعلام تمثل عودة لموروثات الدولة الشمولية التي حلم السيسي بإعلامها، وعمل على استعادة ذلك الإعلام الذي يجسد الدولة في حاكمها، وبالتالي ضرورة الاصطفاف خلف هذا القائد.
عادة لا يأبه نظام السيسي بالانتقادات الموجهة إليه، وخاصة موقفه من حرية الصحافة والإعلام، ولكن لحظة مواجهة الحقيقة في الأمم المتحدة إبان المراجعة الدورية الشاملة للملف الحقوقي المصري مثلت إزعاجا كبيرا له، فهرول قبيل أيام من تلك المراجعة في تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي لإجراء عمليات تجميل عاجلة لوجهه الكالح، وعقد منتدى للإعلام بشر فيه رجاله بنسمات انفتاح إعلامي وشيك (لم تتم رغم مرور ثلاثة أشهر)، كما سارعت الهيئة العامة للاستعلامات بترتيب زيارة لعدد من الصحفيين المنتقين، المصريين والأجانب، لزيارة أحد السجون التي جرى تنظيفها على وجه السرعة لتنافس الفنادق الكبرى في وجباتها الغذائية وملاعبها الرياضية وخدماتها الصحية.. الخ، وهو ما يخالف الحقيقة التي يعرفها الجميع في مصر. والغريب أن رئيس هيئة الاستعلامات ضياء رشوان، منظم تلك الزيارة والذي هو في الوقت نفسه نقيب الصحفيين، لم يكلف خاطره بلقاء زملائه وأبنائه الصحفيين المحبوسين والذين يلزمه القانون بالدفاع عنهم وزيارتهم في محبسهم.
لم تقتصر
انتهاكات نظام السيسي لحرية الصحافة على حبس الصحفيين (دخل السجن 35 منهم لأول مرة خلال العام 2019، وانتهى العام بوجود 67 منهم بين جدران السجون المختلفة بعضهم يقضي عقوبات حبس طويلة وبعضهم في حبس احتياطي)، ولكنها تجاوزت ذلك إلى أسر الإعلاميين المعتقلين، وكذا أسر الإعلاميين المعارضين خارج مصر، والذين يستهدف النظام إسكاتهم عن طريق اعتقال أشقائهم وممارسة ضغوط على بقية أسرهم، وصلت إلى حد إجبار بعض الأسر على التبرؤ من أبنائها عبر الفضائيات، كما أن القمع لم يقتصر على الصحفيين بل طال العديد من الصحفيات وبعضهن أمهات لأطفال صغار، كما أن بعضهن يعانين من أمراض خطيرة تحتاج علاجا ترفض إدارة السجن القيام به.
بقية الانتهاكات أصبحت روتينية من كثرة ارتاكبها مثل المنع من النشر أو المنع من السفر أو حجب المواقع، أو الاعتدءات والمداهمات لمقار الصحف والوكالات، كما حدث مؤخرا مع موقع مصر العربية ومدى مصر، وبعده موقع وكالة الأناضول التركية، ومع تصاعد هذه الانتهاكات وغيرها فإن من الطبيعي أن تظل مصر قابعة في المنطقة السوداء لحرية الصحافة، بل إن الطبيعي أن تصنف كاكبر دولة في حبس الصحفيين وانتهاك حرية الإعلام.