مع تكليف الرئيس قيس سعيد للسيد إلياس الفخفاخ (مرشح حزب التيار الديمقراطي وحزب تحيا
تونس) بتشكيل الحكومة، دخلت الحياة السياسية التونسية مرحلة مفصلية من تاريخها. ورغم عدم التزام الرئيس بعدد الترشيحات عند اختياره للسيد الفخفاخ، فإن أغلب ردود فعل
الأحزاب والمنظمات الاجتماعية لم يكن ضد هذا الخيار (باستثناء حزب الدستوري الحر الذي ما زالت زعيمته عبير موسى ضد كل من قبل بالتعامل مع حركة النهضة أو انتمى إلى حكومة الترويكا).
ولكنّ غياب خطابات الصدام والتنافي لا يعني سهولة مهمة السيد الفخفاخ، ولا تفاهة الرهانات التي ينبغي عليه مواجتها. ففشله في تشكيل الحكومة يعني مبدئيا الذهاب إلى
انتخابات تشريعية مبكرة، أما نجاحه في مهمته فهو مرهون بتوازنات ومصالح متضاربة قد يصعب التوفيق بينها إلا بالتضحية ببعض الشركاء المحتملين.
في أول تصريح له بعد تكليفه بتشكيل الحكومة، قدّم السيد الفخفاخ
تصوره للإطار العام الذي ستتحرك فيه المفاوضات. فهو سيسعى إلى توفير أوسع حزام سياسي ممكن للحكومة بعيدا عن المحاصصات الحزبية، ولكنه حزام مشروط أيضا بما سمّاه بـ"التوجه الأغلبي" للناخبين في الانتخابات الأخيرة. ومن الواضح أن هذا التوجه الأغلبي لا يمكن أن ينحصر في الانتخابات البرلمانية، حيث لا يمكن الحديث عن أغلبية مريحة للقوى الإصلاحية أو للقوى المحسوبة على المنظومة القديمة، بل هو توجه أغلبي يجب أن يُستقرأ بإدماج نتائج الانتخابات الرئاسية، تلك النتائج التي أعطت لرئيس الجمهورية شرعية شعبية تتجاوز شرعية كل الأحزاب، ولكنها جعلته ظهيرا قويا لـ"تغييرات جدية في السياسات العامة للدولة"، وفي "إرساء شروط ومؤسسات الدولة العادلة والصادقة والقوية".
وبصرف النظر عن دلالات استلهام السيد الفخفاخ لشعار التيار الديمقراطي الذي هو الحزب اليساري الاجتماعي الأبرز في تونس، من الواضح أن رئيس الحكومة المكلف يعلن منذ البدء تموقعه ضمن التيار الإصلاحي "الجدي"، ويؤكد على العلاقة التكاملية بين رئاستي الجمهورية والحكومة لتحقيق الإصلاحات المنتظرة شعبيا. ولكن الإشكال يبدأ عند ربط السيد الفخفاخ بين بعدين في مشروعه الإصلاحي: الوفاء للثورة وللثوابت الوطنية. فإذا كان الوفاء للثورة مفهوما باعتباره سعيا إلى تحقيق استحقاقاتها الكبرى (الحرية، والكرامة والعدالة الاجتماعية، والاشتغال على ما أسماه رئيس الحكومة بـ"الأولويات الاقتصادية والاجتماعية" بعيدا عن "المناكفات السياسية الضيقة"، أي بعيدا عن الصراعات الهووية والثقافية)، فإن تعبير "الثوابت الوطنية" يبقى تعبيرا ملتبسا، خاصة إذا ما تذكرنا توظيفاته السلطوية قبل الثورة، وأثره في تغذية الاحتقان السياسي
والصراع الأيديولوجي بعدها. وقد يكون احتكام السيد الفخفاخ إلى استحقاقات الثورة في فهم "الثوابت الوطنية" أو في تحييد آثارها السلبية على أي مشروع إصلاحي، هو المخرج الأمثل من هذا التناقض.
لو أردنا تكوين صورة موضوعية للسيد الفخفاخ، فإننا سنجد أنفسنا أمام معطيين متناقضين. فرئيس الحكومة المكلّف ينتمي إلى حزب التكتل، وهو حزب يساري استطاع تجاوز الاستقطابات الأيديولوجية ودخل تجربة الحكم المشترك مع حركة النهضة (بصحبة حزب المؤتمر) لتشكيل ما سُمّي بحكومة الترويكا. ولكنّ السيد الفخفاخ هو أيضا صاحب المواقف "الصدامية" من الحس الديني العام أو الطابع المحافظ للشعب التونسي، وهي مواقف عبّر عنها خلال ترشحه للانتخابات الرئاسية ولم تسعفه إلا بـ0,34 من مجموع أصوات الناخبين، ولم تسعف حزبه بأي نائب في البرلمان. ولا شك في أن الطبيعة التنابذية للعلاقة بين المعطيين الواردين أعلاه لا يمكن أن تنحلّ إلا إذا صدق السيد الفخفاخ في وعده بالاشتغال على "الأولويات الاقتصادية والاجتماعية"، والابتعاد عن المبادرات التشريعية المغذّية للصراعات الهووية وللانقسام المجتمعي. فالأولوية المطلقة بالنسبة للتونسي هي أولوية اقتصادية واجتماعية وأمنية، ولا علاقة لها بإشكاليات النخب الفرانكفونية ولا بأطروحات "اليسار ذي البعد الواحد" الذي ارتد عن الصراع الطبقي والانحياز للمستضفين، ليتحالف واقعيا مع البرجوازية اللاوطنية ومشروعها في التغريب القسري والنهب الممنهج لموارد الدولة، ومنع أي مشروع للتحرر وبناء مقوّمات السيادة.
وبالإضافة إلى مقبولية السيد الفخفاخ في أكثر من عائلة أيديولوجية وتعبيره عن نقطة التقاء ممكن بين مختلف الفرقاء السياسيين والاجتماعيين، يبدو أن الذهاب إلى انتخابات برلمانية مبكرة أصبح أمرا مستبعدا. وإذا ما نظرنا إلى المواقف السابقة للسيد الفخفاخ قبل تكليفه بتشكيل الحكومة، فإننا سنجد العديد من النقاط التي تسمح بنوع من التفاؤل الحذر. فلا يجب أن ننسى موقفه السلبي من "اتفاق التبادل الحر الشامل والمعمق" مع الاتحاد الأوروبي والمعروفة اختصارا بـ"الأليكا"، وكذلك موقفه الرافض لتقليص الدور الاجتماعي للدولة، بالإضافة إلى مشروعه لضرب التهرب الضريبي وتقليص التفاوت بين الجهات. ونحن لم نتحدث عن "التفاؤل الحذر" إلا لأننا قد عرفنا في تونس وعودا مشابهة لوعود السيد الفخفاخ، ولكنّ الهوّة بين المأمول والمحصول كانت كبيرة؛ إلى درجةٍ أفقدت الطبقة السياسية جزءا كبيرا من رصيدها الأخلاقي ومن مصداقيتها عند أغلب التونسيين.
ختاما، فإن على السيد إلياس الفخفاخ ألاّ ينسى أنه مرشح جزء من المنظومة القديمة (حزب تحيا تونس)، وهو أيضا مرشح المشروع الإصلاحي ممثلا في حزب التيار الديمقراطي. ولا شك في أن معايير الترشيح المعتمدة من لدن الحزبين لم تكن واحدة، ولكن لا شك أيضا في أن كليهما قد وجد جزءا من هويته ومصالحه في السيد الفخفاخ. وسيكون على رئيس الحكومة المكلف أن يتعامل مع هذه "الانتظارات المتناقضة"، وسيضطر لا محالة إلى الحسم إلى اختيار أفق انتظار المنظومة القديمة أو القوى الإصلاحية من خلال برنامجه/فريقه الحكومي الذي سيتقدم به لنيل ثقة البرلمان والقوى السياسية التي تسيطر عليه.