كشفت الحراكات والاحتجاجات الشعبية المستمرة في العراق عن مدى اهتزاز صورة المعممين، وتراجع مكانتهم، حتى بات المتظاهرون ينتقدون رموزا وشخصيات دينية مرموقة، ويهاجمونها بشدة، بعد أن كان انتقاد أي شخصية من تلك الشخصيات يُنظر إليه على نطاق واسع في الأوساط الشيعية باعتباره أمرا مرفوضا ومستنكرا.
ويُرجع مراقبون اهتزاز مكانة
المعممين في العراق إلى سوء أداء من شارك منهم في العملية السياسية، أو دعم
الكثيرين منهم لقوى وشخصيات سياسية تحوم حولهم شبهات فساد، باستثمارها مناصبها
للحصول على مكاسب وامتيازات شخصية، إضافة إلى مهاجمة بعض المعممين للمتظاهرين،
ووقوف بعضهم إلى جانب المليشيات المسلحة التي اعتدت على المحتجين.
وقبل أحداث الاحتجاجات الشعبية
التي انطلقت شرارتها مطلع تشرين الأول/ أكتوبر الماضي كانت تحيط بالمعممين والرموز
الدينية حالة من التقديس تمنع انتقادهم، وتحول دون اتهامهم بأي تهمة، كما يقول
الباحث في الفكر الشيعي، المعمم العراقي السابق محمد علي الموسوي.
وذكر الموسوي في تصريحاته
لـ"عربي21" أن انتقاد شخصية لها حضورها ونفوذها وقوتها، كزعيم التيار
الصدري، مقتدى الصدر كان يُعد أمرا مستهجنا، يُعرض صاحبه إن كان شيعيا لحرق بيته،
وتهجيره من مكان إقامته، أما إن كان سنيا فتهمته بالناصبية حاضرة على الفور، وهو
ما يعرضه للقتل".
وأضاف: "لكن المشهد اليوم
اختلف تماما، فثمة انشقاق داخل التيار الصدري بسبب أفعال مقتدى ومواقفه، وفي
المحصلة فإن حالة القداسة التي كانت تضفى عليه تهاوت كثيرا، وبات انتقاده عاما على
مستوى الشارع، وعلى ألسنة المتظاهرين في ساحات التظاهر، وهم يصفونه اليوم بالعمالة
لإيران".
وعن مدى تأثير اهتزاز صورة
المعممين على التدين الشيعي، داخل العراق وخارجه، لفت الموسوي إلى أن "تأثيره
ربما على المستوى الخارجي سيكون أكثر، لأنهم كانوا دائما يتشبثون بخطاب المظلومية،
وأنهم يقفون إلى جانب المظلومين ويدافعون عن حقوقهم، لكنهم في الوقت نفسه يقتلون
المتظاهرين العزل هذه الأيام وهم من محافظات شيعية معروفة بولائها للأحزاب والمليشيات
الشيعية مثل الناصرية، البصرة، النجف، كربلاء وغيرها".
وأشار إلى أن المرجعية الشيعية
المتمثلة بالسيستاني وابنه محمد رضا، مدير مكتبه، ووكلائه في كربلاء عبد المهدي
الكربلائي، وأحمد الصافي، بدأوا يستشعرون مدى خطورة هذه المظاهرات التي من الممكن
أن تطيح بعرش المرجعية وتنهيه، لأنهم متورطون في دعم الحشد الشعبي الذي يضم
الفصائل والمليشيات الشيعية، والسيستاني هو من أفتى بفتوى الجهاد الكفائي وتأسيس
الحشد الشعبي، الذي هو نفسه يقتل المتظاهرين اليوم في ساحات التحرير"، على حد
قوله.
وتابع: "لذا فإن المرجعية
استشعارا منها للخطر الذي يحيق بها، سلكت مسلكا تضمن به بقاء سلطتها الدينية،
كقولهم دائما بأن المرجعية تدعم مطالب المتظاهرين، وأنها تدعو الحكومة إلى عدم
استخدام العنف ضد المتظاهرين، وهي تدعو إلى انتخابات مبكرة، وتصر على أن قرار
العراق بيد أبنائه، وليس بيد الخارج، لكن كلام المرجعية يمكن حمله على أكثر من وجه
في غالب الأحيان، فهي كمن يحمل العصا من وسطها، حرصا منها على ألا يخسروا أي طرف
من المتظاهرين أو الحكومة أو الأحزاب والمليشيات الشيعية".
من جهته، رأى الكاتب والمحلل
السياسي العراقي، هشام الهاشمي، أن "صورة المعممين لم تهتز كثيرا عند مقلديهم
وأنصارهم القدامى، وإنما اهتزّت كثيرا عند أصدقائهم من الشيوعيين واللادينيين،
وآخرين غير مصنفين على تيارات بعينها".
وأكدّ الهاشمي أن "الرمزية
الدينية لها تأثير كبير على السياسة العراقية، فالمرجعيات لها تأثير فقهي على
العوام، ولها تأثير فلسفي عميق على النخب الدينية، وبالتالي فلديها تأثير سياسي
مرتبط بقوة تأثيرها على العوام والنخب الشيعية".
وواصل حديثه لـ"عربي21"
بالقول "منذ عام 2004 برزت بيوتات كمرجعيات لها تأثير في صناعة الرأي العام
السياسي الشيعي، بين معارض وموال، وهي بيت السيستاني، وبيت الصدر، وبيت الحكيم،
وبيت الخوئي، وبيت الخالصي، ومرجعية الشاهرودي، والحائري واليعوبي وفاضل المالكي
والمدرسي والشيرازي".
وتابع: "في تظاهرات أكتوبر
2019، انحصر التأثير صعودا لبيت السيستاني وهبوطا لباقي البيوتات والمرجعيات لأسباب، أهمها عدم الوقوف الكامل مع المتظاهرين، وأكثر من 95% منهم من المناطق الشيعية،
وكذلك فإن أكثر المتظاهرين يميلون إلى رؤى بخصوص إدارة الدولة تنتهي بفضل الدين عن
الدولة، وهو ما لا يتلاءم مع أكبر تيار شيعي شعبي، ألا وهو التيار الصدري".
ولفت الهاشمي إلى أن "التيار
الصدري تيار محافظ، وهو موال للعملية السياسية، بشرط ألّا يتم إزاحة تأثير الدين
الإسلامي على النظام السياسي، وبإمكان بيت الصدر وبيت الحكيم تعديل موقفهما تجاه
التظاهرات، باتباع النهج ذاته الذي اعتمدته مرجعية السيستاني بالدعم والإسناد
والتعاطف".
بدوره، قال الباحث المصري في الفكر
السياسي الشيعي، محمد الصياد: "من الملاحظ لكل من يتابع أحداث الاحتجاجات
الشعبية في العراق، أن من تجلياتها الواضحة اهتزاز صورة المعممين، خاصة تيار رجل
الدين الولائي (الذين يؤمنون بولاية الفقيه)، وبدرجة أقل تيار رجل الدين الانتظاري
(الذين ينتظرون خروج المهدي لإقامة الدولة) ويمثله المرجع الشيعي الأعلى في
العراق، علي السيستاني.
وأردف: "من المعروف عن مرجعية
النجف، دعوتها المتكررة إلى السيادة على الأراضي العراقية، والتحذير من التدخل
الخارجي في الشأن العراقي، والمطالبة باندماج المليشيات المسلحة في المؤسسات
العسكرية التابعة للدولة، والمرجع الأعلى السيستاني متناغم في مواقفه مع
المتظاهرين، وهو يوجه دائما إلى احترام توجهاتهم، وعدم استعمال العنف ضدهم".
وإجابة عن سؤال
"عربي21" حول مدى انعكاس اهتزاز صورة المعممين على التدين الشيعي بصورة
سلبية، أبدى الصياد تحفظه على إصدار الأحكام في هذه المرحلة، لا سيما أن طبيعة
الشعائرية الدينية (الشيعية) تلعب دورا كبيرا في تمتين وتصليب اللحمة الداخلية،
ومن الوارد جدا أن تقوم المرجعيات الدينية بترميم الصورة المهتزة للمعممين، ومن
الملاحظ أن إيران تسعى لإيجاد مرجعيات دينية ولائية موازية تضطلع بمثل هذه
المهمة".
وشدد في ختام كلامه على أن "إيران هي صاحبة النفوذ الأكبر في العراق عبر أذرعها الكثيرة المتمثلة في الأحزاب والقوى السياسية، وكذلك المليشيات المسلحة، ومساحات الحركة أمامها واسعة، وهوامش المناورة كبيرة، في مقابل ما تملكه مرجعية النجف من القوة الناعمة، المنحصرة في التوجيه والإرشاد".
تفاصيل تكليف علاوي برئاسة حكومة العراق.. هل جاء بصفقة؟
بعد مغادرة الصدريين.. ما مستقبل الحراك الشعبي بالعراق؟
العراق.. هل وحّدت إيران "البيت الشيعي" بمظاهرة الصدر؟