جهيمان والكعبة وزقُّ الخمرة: دروس وعبر

سنتذكر بعض الدروس من برنامج "ما خفي أعظم"، ودروسه كثيرة، وسنضرب صفحا عن خبر نشر في هذه الصحيفة، أنَّ أمير مكة فواز بن عبد العزيز كان سكرانا يوم حصار مكة، كما غرّد دبلوماسي سعودي، وصف نفسه بالقديم، ليس من الوجد الصوفي أو قيام الليل، وإنما من الخمرة، وأن الأمير المظفر الساهر على راحة الحجاج وهم بالملايين، لم يعلم بالحصار إلا عصر اليوم التالي، بسبب الخمرة التي خمرت عقله، ولم تجدِ معه محاولات الإيقاظ الناعمة. فالأمير لا يوقظ إلا بنقر لا يسمع على الباب مثل نقرة منقار العصفور، وإنه عوقب من الملك ونفي ومات في باريس، وفارق مدينة النور الإسلامية إلى مدينة النور غير الإسلامية، بعد انجلاء الحصار ومقتل جهيمان وأصحابه، وتلك علامات برهانية على صدق خبر الخمرة.

يمكن أن نتذكر التذكارات، فالشيء بالشيء يذكر، فأبو غبشان (خال قصي بن كلاب الجد الثاني لعبد المطلب) في الأخبار والمرويات، وكان سكّيرا، فأعوزه الشراب يوما فباع مفتاح البيت قصيّا بن كلاب بزقّ خمر. هنا يروي ابن هشام، فيقول: "إنه لما هلك حُليل.. رأى قصي أنه أولى بالكعبة وبأمر مكة من خزاعة.. فكلَّمَ رجالا من قريش وبني كنانة، ودعاهم إلى إخراج خزاعة من مكة، وبخدعةٍ استطاع أن يشتري من أبي غبشان الخزاعي (وكان عجوزا خَرِفا) مفاتيحَ الكعبة، مقابلَ زِقٍّ من الخمر وقَعُود، في ليلةٍ سامرة". ويقول الحافظ ابن كثير: "فاشترى قصي ولايةَ البيت منه بزِقٍّ من الخمر وقَعُود؛ فكان يُقال: أخسرُ من صفقةِ أبي غبشان". ويزيد ابن هشام بقوله: "فكان قصي أول بني كعب بن لؤي أصاب ملكا؛ أطاع له به قومه، فكانت إليه الحجابة والسقاية والرفادة والندوة، فحاز شرف مكة كلها".

وقد نتذكر أيضا (فالشيء يذكر بنقيضه أيضا) فتوى الشيخ عبد العزيز الريس التي قالها وهو عاقل، بالغ، راشد، من غير خمرة ولا إكراه، عن وجوب طاعة الحاكم حتى لو زنى وشرب الخمر على الهواء مباشرة. ولم يذكر الريس شرب الدماء على الهواء.

ويظهر أمير مكة وقت الحصار، على قدر من التقوى، فلم يشرب الخمرة على الهواء، بل قد يثاب لأنه كان يحتفل بعيد الهجرة النبوية على طريقته. وهناك دروس كثيرة وعبر وعبرات ونظرات، أولها:

أن جهيمان هو البادئ بالظلم بتمترسه بالحجاج الأبرياء الآمنين قولا فصلا، وأنه عَدِم وسيلة للاحتجاج والتغيير فلم يجد إلا ركوب خبر المهدي، وهو يؤمن بأن المهدوية كسبية بالجهد وليس وهبية من الله، أي تؤخذ بالتغلب مثل المُلك. ويبدو أنه لم يكن أهلا لتلك الثورة بتعليمه البسيط، وظنّ أن هيبة الحرم ستمنع عنه خصومه، وكان تحصيله رابع ابتدائي، ولا يعرف قراءة القلوب والنفوس، وزعموا أنه كان يعمل في التهريب، لكن البادئ بالظلم في الحرم لا يظلم، لأنه في الحرم، وقد يجوِّز البعض ظلمه، لكن لمَ يُظلم معه الحرم وضيوف الرحمن قتلا أو ترويعا، وقد قتل منهم الكثير كما جاء في شهادة باريل؟

رأينا عشرات الأفلام وبعضها وثائقي، لمجرمين يأخذون الرهائن في بلاد الغرب، في بنوك، أو غيرها، ورفق الحكومات الغربية بهم وحرصها على أرواح مواطنيها، وإيثارهم طرق الحيَل الناعمة، وهي كثيرة لاستدراج المجرمين (والبنك مقدس عندهم، أو شبه مقدس) وإنقاذ الأرواح المرهونة، وتبذل جهدها في إجراء المفاوضات، بدفع الماهرين في علوم النظر والنفس وأدب الحوار والمناظرة. ويمكن أن نتذكر هنا، ما دام هذا المقال يناوب بين الماضي والحاضر، فن التفاوض من مفاوضات النبي عليه الصلاة والسلام مع سهيل بن عمرو إبان فتح مكة. الدرس هو أن الحكومات الرشيدة حريصة على أرواح شعبها، وقد تستخدم غازا منوما، وليس غازا ساما يستمر أثره ثلاث سنوات، وربما أكثر، وما خفي أعظم، فهل هو غاز أم صمغ؟

وثاني العبر والدروس أن درس حصار طروادة لم ينته، فجيهمان وأصحابه احتالوا في إدخال الأسلحة بنفس طريقة حصان طروادة، بتهريب الأسلحة في توابيت إلى الحرم، ولحصان طروادة نسخة عربية أسطورية نجدها في قصة الزباء وقصير بن سعيد في قصة العير الأربعين، وصراعها مع جذيمة الأبرش، وأمس رأيت الحيلة في فيلم صيني ملحمي مشهور اسمه "ظل".

والتذكرة الثالثة، لمن آمن واتقى، أن لورانس العرب اسمه هذه المرة بول باريل، ولم يتنكر في زي عربي هذه المرة، ولم يتعلم مفردات عربية، ولم يعِد شيوخ العرب بالممالك، ولم يضرب سكة الحجاز وينسفها، ليفصل بين العرب والترك ويؤلب بعضهم على بعض.. اللورانس الجديد جاء برجاء واستغاثة ومهمة مأجورة. وهو ماهر في السلاح وليس في الفكر مثل لورانس. ويمكن أن نتذكر نابليون بونابرت الذي سبقهما، وكان قد غزا مصر، وأطلق على نفسه اسما مسلما، وابتدأ رسالته إلى الشعب المصري بالبسملة.

رابع الدروس أن بول باريل رجل بألف مقاتل سعودي! وكان وزير الداخلية ينتظر ألفا من الجند الفرنجة لفتح مكة وتحريرها من المسلمين "الخوارج"، فأرسل له ملك الفرنجة فاليري جيسكار ديستان ثلاثة فقط! والشهادة لله أن ملك الفرنجة كان ألطف بالمسلمين من ملك الكعبة.

والدرس الخامس الذي يمكن أن نتذكره هو مقارنة حصار مكة بحصار باريس في الحرب العالمية الثانية، وكان المارشال بيتان حاكما لباريس عند اقتحام جيش هتلر لها، فسلّم مدينة النور لهتلر من غير مقاومة، ووافق على شروط القائد العسكري الألماني، ووقع على معاهدة الاعتراف بالهزيمة، إنقاذا لباريس من دمار كلي محتّم، على أن تكون باريس "مدينة مفتوحة"، وهذا يعني أنه لا يجوز تدميرها، ولما اتهم بيتان لاحقا بالخيانة دافع عن نفسه قائلا: لقد فعلت ذلك من أجل سلامة اللوفر، واللوفر ليس أهم من مكة، وليس أقدس من مكة عند المسلمين، وهي مدينة النور عند المسلمين وقبلتهم، وقد حصل بيتان على البراءة! وأن التدمير حصل هذه المرة من أهلها الذين لم يرعوا حرمة الحرم، وهم جهيمان وخصومه، فقتلوا وسفكوا دماء الحجاج المسالمين.

والدرس السادس هو أن قصة جهيمان تحتاج إلى المزيد من البحث، فإما أنه امتلأ بشعور المهدي، أو أنه اتخذها ذريعة للقيام بانقلاب. والانقلابات تقع عندما تنسد طرق السياسة والتغيير، أو هو الاستعجال، فهو لا يستطيع الوصول إلى قصر الملك لشدة الحراسة، فتجرأ على بيت الله المعمور.

والدرس السابع أن الحجاج يسكتون عن الموت في الحرم، لأن الموت فيه كرامة وهي منية الحاج من غير قتل أو بقتل، فلم نسمع عن احتجاجات كبيرة من الدول المسلمة سوى إيران، وتلك نعمة يتنعم بها ملوك السعودية.

والدرس الثامن هو الجانب الكوميدي الذي يتجلى في جهل الجيش السعودي وانعدام خبرته، وإقدامه على إعدام المستسلمين السريع، خوفا من حججهم وذرائعهم التي قد تؤلب الناس ضد حكام السعودية. وقد عملت هوليود آلاف الأفلام التي تذمّ العرب وتسخر منهم، لكنها لن تقدم على تمثيل فيلم يحاكي تجربة حصار الحرم، ليس احتراما لمشاعر المسلمين، وإنما لمصالح سياسية.

والدرس التاسع أن من يشرف على مكة استعان على المسلمين بغير المسلمين في القتل، وليته استعان بهم في تنظيم الحج، والأضاحي، وقدوم الوفود والرجم، ولو استعان بعقلهم وخبرتهم في الإدارة ما سقطت الرافعة على المسلمين يوم الجمعة 11 أيلول/ سبتمبر 2015 في مشروع توسعة المسجد الحرام فأصابت منهم المئات، بين قتيل وجريح.

والعاشرة أنَّ لعنة الله على الظالمين.