يتعرّض رئيس مجلس الأمّة الكويتي، مرزوق الغانم، لهجمة محمومة من عدد ممن يُقال إنهم مثقفون خليجيّون عموما، وأوضحهم، مع الأسف، سعوديّون. وحتّى لا نطيل في وصفهم، أو ننشغل في تفكيك حقيقتهم الثقافية، فسوف نتنزّل لاستخدام ذلك الوصف، انشغالا بالأهمّ، وهو الكيفيّة التي ينحطّ بها إنسان عربي لنفي ذاته، بمسعاه لنفي
فلسطين.
من المؤكّد أنّ الخطاب المتهافت الذي أنتجه عدد من المثقفين الخليجيين
في هجومهم على الغانم، لم يكن باعثه العداء الشخصي، أو الموقف السلبي من الرجل أو من بلده، ولكنّه ببساطة موقفه من القضية الفلسطينية، وهو موقف متصل، لم يبدأ من تمزيقه "خطّة ترامب لتصفية القضيّة الفلسطينية" ورميها في
سلة المهملات، أثناء اجتماع الاتحاد البرلماني العربي في عمّان أخيرا، ولكن الرجل دأب على إظهار انحياز واضح للقضية الفلسطينية، في مسلك لا يتفق مع حمّى
التطبيع، ويحرج بلاد التطبيع وساستها وأذيالهم.
وإذا كان هذا دأب الغانم كما عرفناه أخيرا، فإنّ دأب مهاجميه وصف أيّ موقف مؤيد للقضيّة الفلسطينية بالشعبوية والعنترية والصوتيّة. فمحاولتهم تغطية هجومهم على الرجل بقولهم إنّ تمزيق الخطّة ورميها سلوك شعبوي وغير دبلوماسي، هو غطاء زائف ويفضح نفسه، فالحدّة الخطابية، والجذرية المبدئيّة في تأييد القضيّة الفلسطينية، مطلوبة لطبيعة القضية نفسها. فهي قضيّة في أصلها لا تقبل أنصاف الحلول، فكيف بحلول التصفية؟ وهي قضية جليّة العدالة بما لا يحتمل أدنى غبش، فسلوك الغانم هو السلوك التلقائي لإنسان عربيّ، وبما ينسجم من كل ناحية، حتّى دبلوماسيّا مع طبيعة القضيّة الفلسطينية.
فموقفهم إذن ليس من أدائه الذي وصفوه بالشعبوي، ولكن من القضيّة الفلسطينية نفسها، وانطلاقا من دعمهم لنفي فلسطين والتخلّص منها. وحقيقة النفي شديدة الحضور في كتابات تركي الحمد، أحد أبرز هؤلاء المثقفين، دائم الزعم بأنّ الفلسطينيين ظلّوا يضيّعون الفرص حتّى لم يبق لهم إلا خطّة ترامب، فإن ضيّعوها فقد ضيّعوا آخر ما تبقى لهم. وبالرغم من الجهل البادي في هذا الكلام، فإنّه لا يرى للفلسطيني أيّ كينونة مركّبة من هويته وشخصيته وتاريخه وأرضه وكرامته، وإنّما هو محض كائن هامشي يمكن له أن يعيش على فتات الصهاينة. وبكلمة أخرى، هذه الأطروحة التي تطالب الفلسطيني بالقبول بأيّ شيء، هي تدعو الفلسطيني للقبول بنفي ذاته، وذلك بنفي المركّب الفلسطيني، مركّب الرواية والتاريخ والأرض والكرامة.
الصهيوني في مبتدأ دعايته، وجوهر مقولته، لا يعترف بالذات الفلسطينية، وإنّما فلسطين عنده "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض". فليس هناك شعب فلسطيني، وهذه الكائنات الغرائبيّة المكتشفة في فلسطين يمكن لها الحفاظ على حياتها في محميّات معزولة، تتوفر فيها كميات مدروسة من الغذاء والماء والهواء والشمس، تماما كما يجري الحفاظ على حيوات الكائنات المهدّدة بالانقراض في غير مكان من هذا العالم. وعلى أيّ حال، فالصهيوني يرفض أيّ وجود سياسيّ للفلسطيني، وأيّ ذات مستقلّة له، ولا يعترف بأيّ قدر من روايته، وهذا محصل ما يقدّمه مثقفو الخيبة والتبعية.
المفردات الواردة في هذه المقالة، من قبيل "تاريخ" و"كرامة"، بالنسبة لهذا الصنف من المثقفين، هي مجرّد شعارات عنتريّة، وهذا التصوّر للكرامة والتاريخ والذات والهويّة هو قبول ضمني بنفي الذات، وفي النتيجة تمدّد صهيوني في الوعي العربي. فبقدر ما يبدو للفلسطيني مستفزّا هذا الخطاب الذي يعامله ككائن غير آدميّ وآيل إلى الانقراض، فإنّه في الوقت نفسه (أيّ الخطاب المشار إليه)، يعبّر عن ذات غير واثقة من آدميّتها، ومتشكّكة في كرامتها، وقابلة لنفي الذات، بقبول أيّ حياة، أي القبول بحياة مجرّدة من الكرامة.
الدليل على ذلك هو في القبول المجاني لهذا الانحطاط، وربما الرغبة فيه وإرادته. فالكائن البهيمي وحده الذي لا يعتمل فيه الإحساس بالكرامة، هذا بالرغم من كون القبول بـ"إسرائيل" انحطاطا في كلّ أحواله، وهو انحطاط له درجات من القبول سقوطا إلى التآمر مع العدوّ، إلا أنّ الساسة العرب أصحاب الأمر، في جانب من دوافعهم إحكام السلطة، وتسييجها بالرضا الأمريكي بتوسيط الصهيوني وكسب رضاه أولا، بمعنى هناك استفادة متحصّلة وإن كانت رخيصة ومدفوعة في الوقت نفسه من الكرامة، فإنّ هؤلاء المثقفين لا يستفيدون شيئا، سوى مجرد العيش على فتات السلطة، والتنفس داخل محميات السلطة، وهي محميّات أشدّ بؤسا من تلك التي يطالبون الفلسطيني بالقبول بها، فنحن إزاء رخص مجانيّ.
هذا النموذج كافٍ لتوضيح كيفيات التمدّد الصهيوني، والتي لا تأخذ دائما شكل الاحتلال السافر للأرض، وإنّما الأخطر في نفي العربي، دون إدراك هذا الأخير!