الاتفاق الذي
وقعه الرئيسان الروسي بوتين والتركي أردوغان في موسكو يوم الخميس الماضي (5 آذار/ مارس) كان بمثابة استراحة محاربين تتيح الفرصة لكلا الطرفين إعادة ترتيب أوراقه، وإعادة رسم خططه للفترة المقبلة. ويبدو أن هذا الأمر كان مرضيا لكل الأطراف، بما في ذلك أهل وقاطنو
إدلب الذين ستتيح لهم هذه الاستراحة التقاط الأنفاس المحبوسة، والتزود بالمؤن المطلوبة وتدبير شؤونهم لفترة مقبلة.
النوايا ليست طيبة بين الجانبين الروسي والتركي، ولكن توازنات المعارك الميدانية هي التي أجبرتهما على هذا اللقاء وعلى تلك النتائج، وما أن تتبدل تلك التوازنات على الأرض بدخول أي عناصر قوة جديدة، سواء كانت بشرية أو تسليحية أو تغيرات إقليمية أو دولية لصالح هذا الطرف أو ذاك، فإن ذلك سينعكس فورا على استراحة المحاربين لينهيها، ولتبدأ جولة جديدة من المعارك يحقق بها البادئ مبتغاه كله أو جله.
التاريخ الصراعي طويل بين الروس والأتراك، ويحرص كل جانب على تذكير الطرف الآخر ببعض أمجاده في هذا السياق، ومن ذلك مثلا حرص الروس على
وضع تمثال الإمبراطورة كاترينا الثانية التي انتصرت على العثمانيين في حرب 1877-1878، خلف الوفد التركي خلال لقاء موسكو الأخير. ولم يقتصر الأمر على هذا التمثال ذي الدلالة الرمزية، بل حرصت وزارة الخارجية الروسية على كتابة تغريدة على صفحتها حول تلك المعركة قبيل وصول الوفد التركي قالت فيها: "الهدف الأساسي من الحرب الروسية مع الإمبراطورية العثمانية بين 1877 و1878 كان تحرير شعب البلقان من قرون من الحكم العثماني، وبعد أن هزمت الجيوش الروسية الأتراك نالت رومانيا وصربيا والجبل الأسود كامل استقلالها، ونالت بلغاريا جزءا كبيرا من الحكم الذاتي.."، وعلى الأرجح فإن الأتراك لن يفوتوا أقرب فرصة لزيارة بوتين إلى أنقره لرد الصاع صاعين.
تتفاوت الموازين العسكرية حاليا بين الدولتين، إذ يحتل الجيش الروسي المرتبة الثانية عالميا في تصنيف القوة العسكرية وفقا لموقع "غلوبال فاير بور"، بينما يقبع الجيش التركي في المركز الحادي عشر، وبغض النظر عن أي شكوك تحيط بهذا التصنيف، إلا أن الواقع يؤكد أن هناك فارقا في المستوى لصالح الجيش الروسي، وريث الاتحاد السوفييتي وحلف وارسو وصاحب المنظومة النووية المتطورة. وتتفاوت الموازين الاقتصادية أيضا لصالح
روسيا، ولكن هذا التفاوت لم يمنع
تركيا من خوض غمار المعركة دفاعا عن إدلب، وكان من مصادر قوتها الشرعية الأخلاقية لهذه الحرب، إنقاذ أربعة ملايين سوري سيتعرضون للإبادة أو التهجير على يد نظام بشار المجرم المدعوم من روسيا وإيران حال دخول القوات السورية إليها. والمصدر الثاني للقوة هو خوض المعارك على حدود تركيا على خلاف الجيش الروسي الذي يخوض معارك تبعد عنه آلاف الأميال، والمصدر الثالث هو شخصية الرئيس رجب طيب أردوغان القوية، أو حسب توصيف البعض "المغامرة"، وهي الشخصية المناسبة تماما للتعامل مع الرئيس الروسي المغامر أيضا، بوتين، وحتى الرئيس الأمريكي الأحمق ترامب، ولذلك فإن كلا الرئيسين بوتين وترامب يقدران الرئيس التركي، حتى وإن استمرا بالتآمر ضده.
تضمن اتفاق الرئيسين وقف إطلاق النار في منطقة التصعيد بإدلب، وتسهيل عودة
النازحين إلى مناطقهم الأصلية، وإنشاء ممر أمني بعمق ستة كيلومترات على جانبي الطريق السريع M4 (حلب – اللاذقية)، على أن يتم خلال أسبوع الاتفاق على معايير محددة لعمل الممر الأمني بين وزارتي الدفاع في البلدين. واحتفظت تركيا في الاتفاق بحقها في الرد على الجيش السوري إذا اقترب من قواتها، كما حافظت روسيا على حقها
في مواجهة ما وصفتها بـ الجماعات الإرهابية، وهي تقصد بها جماعات المعارضة السورية.
وقد بدأت بالفعل الدوريات الروسية التركية المشتركة عملها خلال الأيام الماضية على الطريق الدولي M4، بينما تغافل الاتفاق الحديث عن الطريق الدولي M5 الذي تسيطر عليه قوات حليفة لروسيا، وكذلك الأماكن التي سيطرت عليها مؤخرا القوات السورية والمتضمنة في اتفاقية خفض التصعيد في سوتشي.
تبدو
فرص صمود الاتفاق هشة مثل صياغته الهشة، وقد يقاوم لبعض الوقت نتيجة مخاوف متبادلة من الطرفين الروسي والتركي. فروسيا تخشى خروج تركيا من مسار أستانا وتنحاز أكثر إلى حلف الأطلسي، وهو ما تحرص عليه الإدارة الأمريكية التي أوفدت وفدا رفيعا إلى تركيا قبيل لقاء موسكو بين أردوغان وبوتين. وتركيا تخشى المواجهة غير المتكافئة مع الجيش الروسي، ونزوح موجات جديدة من السوريين إلى أرضها. ونظرا لهشاشة الاتفاق، فإن احتمالات تفجيره قائمة تنتظر عود الثقاب الذي قد يشعله الأمريكان أو الإيرانيين أو النظام السوري نفسه.
يدرك كلا الطرفين أن الاتفاق هش، وأنهما اضطرا لتوقيعه بفعل التوازنات على الأرض التي لم تتح لأحدهما تحقيق مبتغاه. فلا الأتراك تمكنوا من تحقيق المنطقة الأمنة بعمق 15 كيلومترا، ولا الروس تمكنوا من دخول إدلب، رغم ضراوة المعارك، وبالتالي كان الطرفان بحاجة إلى
هدنة لاتقاط الأنفاس وإعادة ترتيب الصفوف والحسابات، وربما وضع قواعد لضبط المواجهة، حيث
تستمر الضربات الروسية لقوات المعارضة السورية بوصفها مليشيات إرهابية خارج نطاق الاتفاق، وتستمر القوات التركية في ضرب قوات النظام السوري باعتبارها معتدية على المناطق الآمنة المشمولة بالاتفاقات.
ولكن رغم هذه الضربات فإنه سيستمر حرص الطرفين التركي والروسي على تجنب الدخول في مواجهات مباشرة بينهما، كما سيواصل الجيشان التركي والروسي تعزيز قدراتهما على الأرض، حيث ستتمكن القوات التركية من نصب منظومتها الدفاعية المتطورة، والتي تسهم في تأمين أجواء المنطقة الآمنة من غارات الطيران الروسي والسوري، وتعطي دعما كبيرا للمقاتلين على الأرض، في الوقت نفسه ستواصل روسيا تعزيز قواتها وأنظمتها القتالية أيضا استعدادا لأي مواجهة محتملة. وسيبقى الجميع في انتظار أي متغيرات، سواء من صنعهما أو من صنع غيرهما، تُحدث تغييرا في موازين القوى على الأرض وتفتح الباب لجولة جديدة من المعارك.