أهدرنا كثيراً من الحبر والوقت، على سقط المتاع، والهذر، وسفاسف الأمور، والوقت أثمن من الذهب، فكتبت صحف عربية سفاسفَ، وأنشأت فضائيات عربية معارضة تقارير عن الزجاجة وراء بشار الأسد، والنسر خلفه. والرجل لايزال في القصر الجمهوري، وابنه لا يزال الأول في الرياضيات السورية وخوارزميات البرميل، وأخوه لا يزال بطل الفرقة الرابعة، وبثينة شعبان ما تزال ملكة جمال الخطاب السياسي السوري، وعلي مملوك ما يزال يحتفظ بآلاف المعتقلين رهائن.
ضربنا الأخماس بالأسداس ونحن نؤول الصور، ونريد أن نزن بعلاماتها لا بعلامات الميدان النصر والهزيمة، ربما نسلو بها عن جراح الحرب، ربما يجتهد الخصم على التشتيت. وكتبنا كثيراً عن قارورة الماء بجانب عبد الفتاح السيسي، وتذكّرنا ثلاجته التي ليس بها سوى الماء، ولا بد أنه سَعدَ بهذرنا، فهي أفضل من أن نقول له: ارحل، وهو يريد أن ينقذنا من العوز الذي نعيش فيه. وانشغل الإعلام بحذائه الذي أُعجب به ترامب، وغفل ترامب عن مناقبه الكثيرة التي قيلت فيها قصائد، وترنّمت بها فضائيات، وشدت بها نجمات سينما وتلفزيون، مثل جمال عيني السيسي، وبياض أنيابه، وتوّرد خديه، وربطة عنقه السيفية المصقولة. وخاف أناس أن يجند ترامب حملة أولها في منابت البترول وآخرها في نيويورك، لاغتنام حذاء السيسي السحري. وكان وزير الخارجية الروسي لافروف قد نُسبت إليه عبارة "أحبك يا اردوغان"، وبيّنَ الكرملين في بيان رسمي معنى ترجمة عبارة لافروف.
هناك قول منسوب لابن خلدون الذي تنسب إليه أقوال هو منها بريء: إنَّ الهذر ينتشر في أوقات الهزيمة، لكن من المؤكد أنَّ الأخلاق تنهار بانهيار الاقتصاد.
لعلنا نبحث عن عزاء ما دمنا غير قادرين على النصر، ونتشبث بقشة عائمة في هذا البحر المتلاطم. وهم أيضاً يبحثون عن إشارات صغيرة مثل هذه لدى رموزنا، إن بقي لنا رموز أحياء. أو يغيرون على رموزنا في
التاريخ، فيتذكرون خالد بن الوليد والزبرقان بن بدر، وحديث رضاع الكبير، وزوجات النبي الكثيرات، وإماء المسلمين وجواريهم... ومن ذلك صحيفة عربية، تسمي نفسها "العرب"، كتبت على صدر صفحتها بالعنوان العريض: "تمثال كاترينا يحضر لقاء بوتين وأروغان" الرسالة وصلت إلى المغردين العرب. بعنوان أقل عرضاً وأطول: "مغرّدون عرب يؤكدون أنَّ روسيا تعمدت وقوف الوفد التركي تحت تمثال كاترينا الثانية التي اعتادت هزيمة العثمانيين وساهمت في انهيار دولتهم".
ولو كنت محل رئيس التحرير الفطحل، الذي صاغ جملته صياغة ركيكة وذكر فعل "اعتاد" في سياق ليس سياقه، لقلت: وكانت الإمبراطورة كاترينا قد هزمت الإمبراطورية العثمانية. ووصف الخلافة أو الإمبراطورية العثمانية أولى وأنكى، وأحسن ديباجة، لكن هيئة تحرير ضعيفة الفصاحة وإن كانت الشياطين تؤزها أزا.
الحرب الطاحنة على أشدِّها على الشعوب الثائرة، بالبراميل والسارين على الشعب السوري، وعلى الشعب اليمني والشعب الليبي بالصواريخ، وبالاعتقال والتعذيب للشعب المصري، ولا تنتهي حروبهم بحرب الكلمات والفضائيات، والإشارات والرموز، والتشتيت والتشعيث والتطبيل والتزمير، اشتركت فيها مذيعة حسناء، أقصيت عن الجزيرة، لضعف في أدائها، لم يغفر لها جمالها سوء الأداء، فاستأجرها محور الرز، ولها متابعون بعشرات الآلاف، وتترصد مثل العرب أمثال هذه الصور. وغيرها كثير؛ أئمة ودعاة وفقهاء سفهاء ونجوم كوميديا..
الحرب خدعة، لكنها خدعة من جهتين: خدعة للخصم لإيهامه بالهزيمة، وخدعة للصديق لإيهامه بالنصر.
ويمكن أن نتذكر فضائية "العربية"، كيف خلقت من صورة أسطورة اسمها "الرجل الواقف في تقسيم". وكانت حكومة الإمارات تدفع أجوراً لمئة متظاهر أو أكثر في ساحة تقسيم احتجاجاً على حديقة غازي بارك، وكلفت كومبارساً بالوقوف كالصنم، ثم تبنته الفضائية وصنعت منه أسطورة ذابت مثل الثلج في الشمس. هؤلاء قوم يحبون الأصنام.
ويمكن تذكّر مثالين مضادين، أحدهما من السيرة النبوية، والثاني من سيرة عمر. الأول في صلح الحديبية وهو: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم، أمر عليا: اكتب بسم الله الرحمن الرحيم، فقال سهيل بن عمرو: لا أعرف الرحمن، اكتب كما نكتب باسمك اللهم، ونلاحظ سعة المساحة المشتركة بين الطرفين، قال: فضاق المسلمون من ذلك وقالوا: هو الرحمن وقالوا لا نكتب إلا الرحمن. قال سهيل: إذا لا أقاضيه على شيء. فقال رسول الله: اكتب باسمك اللهم، هذا ما اصطلح عليه رسول الله، هنا اعترض سهيل، وهو درس عظيم في فن التفاوض، والمنازلة بالأعراف والشرائع، لو أعلم أنك رسول الله ما خالفتك، واتبعتك، أفترغب عن اسمك واسم أبيك محمد بن عبد الله؟
فضج المسلمون منها ضجة هي أشد الأولى، فها هو ذا سهيل يهاجم ويحاول النيل من النبي، ويتهم النبي بنكران أبيه، حتى ارتفعت الأصوات، وقام رجال من أصحاب رسول الله يقولون: لا نكتب إلا محمد رسول الله. علام نعطي الدنية في ديننا؟ فجعل رسول الله يخفضهم ويومئ بيد إليهم: اسكتوا، وقال رسول الله اكتب محمد بن عبد الله.
والمثال الثاني: أنَّ بني تغلب لما طلبوا من عمر بن الخطاب أمير المؤمنين الذين كانوا نصارى أنّ يأخذ منهم ما يريد أخذه، ولو كان ضعف المأخوذ من المسلمين باسم الزكاة، لا باسم الجزية، فرفض أول الأمر، ثم قبل منهم وقال: هؤلاء حمقى، رضوا المعنى وأبِوا الاسم. والاسم مهم، ويعني الإباء والكرامة، لكن المرونة واللين والحكمة كانت هي الهادية في الحالين. ويمكن أن نرى مرونة أمريكا ومرونة إسرائيل معنا ونحن نشتمهم ليل نهار، بل إن حكوماتنا كانت تكل من شتم السرطان والخنجر في الخاصرة العربية، فتتصل بهم إسرائيل سراً وتقول: اشتمونا يا بقر، تنكروا، ضعوا أصبغة المهرجين، حتى تظهر حكوماتكم الرشيدة بمظهر وطني.
إنها معركة ذات السفاسف.