هل فيروس
كورونا عقاب من
السماء؟!
مثل هذا السؤال قد يفتح
قرون الاستشعار عن بعد لدى البعض من بني جلدتنا، فينطلقون في الاتجاه المعاكس
تماماً، ليس فقط بإعلان خلافهم مع هذه الرؤية لكن لما هو أبعد، لشعورهم أن
انحيازاتهم الفكرية تحتم عليهم، أن يكونوا جاهزين لاستخدام كل الأسلحة بما فيها
سلاح السخرية القاتل، للإجهاز على القائل، فلا تقوم له قائمة!
هذا الاندفاع في المواجهة
يحرض عليه أمران، الأول: هو الشعور بأن كل ما يتصل بالسماء إنما يدخل ضمن حسابات
الخصم، فالسماء تعني بالضرورة الإسلام السياسي، والذي يعني بالضرورة جماعة دينية
بعينها هم معها في خلاف، ويخشون من انتشار هذا الكلام فتكون نتيجته هو أن يكسبهم
هذا الخصم بذلك في مجال النزاع السياسي والمنافسة على الشارع، دون أن ينتبهوا إلى أن
الشارع لم يعد متاحاً لأي منهم كسبه أو مخاطبته. فالشارع تم أخذه من الجميع قسراً،
وتحت تهديد السلاح، ليكون خارج حسابات كافة الأطراف الأخرى!
الأمر الثاني أنه في ظل
الإفلاس الفكري، فهناك تيار لم يجد ما يلحق نفسه به إلا انتحال صفة العلمانيين،
ولو دخلوا في امتحان حول
العلمانية، وسماتها، وظروف نشأتها، فلن يتمكنوا من النجاح
أبداً. فالعلمانية هي الرصيف الآخر المقابل لجماعات الإسلام السياسي بعد ابتذالهم كلمة
الليبرالية، حتى فقدت بسوء الاستخدام معناها، فخطوا خطوة بعيداً للبحث عن انتماء
جديد، يظنون أنه الأكثر عداء للفكرة الإسلامية، ساعدهم على ذلك جهل الخصم بها، فهي
عندهم والكفر صنوان، وإن لم تكن ليست تصورا فكريا في مواجهة الإسلام!
الفصل بين الكنيسة والدولة:
فالعلمانية في نشأتها الأوروبية
كانت تعني الفصل بين الكنيسة والدولة، أو للدقة وقف هيمنتها على الحياة وفرضها
للرأي الكهنوتي المقدس على العلم، والتي أسس لها هو قس في الأصل، لم يكن في عداء
مع الدين، غاية ما في الأمر أنه أنزل رجل الدين إلى مستوى الطبيعة البشرية. وهنا
تأسس مذهب مسيحي جديد هو المذهب البروتستانتي، الذي أنهى فكرة رجل الدين.. فهل
يدرك العلمانيون الجدد ذلك؟!
في
مصر قام خلاف بدرجة أقل
في عهد ما قبل الثورة، حول سؤال من يكون له الرأي في شأن الأقباط.. رجال الإكليروس
أم وجهاء الأقباط من المدنيين الذين يشكلون المجلس الملي؟ ولا تزال أصداؤه قائمة
إلى الآن. وتردد البابا شنودة طويلا قبل عودة المجلس الملي، ثم إن البابا عاش ومات
وهو يحمل على قانون الأحوال الشخصية الذي يراه مخالفاً للرأي الديني لأنه من بنات
أفكار المجلس الملي، وليس مستنداً للكتاب المقدس!
وكان ينبغي على الكنيسة أن
تكون معادية للدعوة للعلمانية بنمطه الشائع (فالعلمانيون لدى الكنيسة هم من غير
رجال الدين)، لكنها تدرك أن العلمانيين الجدد لا يستهدفونها وإنما يستهدفون
الإسلاميين، ولهذا نجد شخصية مسيحية مثل رجل الأعمال نجيب ساويرس هو من يصنع كثير
من هذه الشخصيات على عينه، بعد أن فقدت العلمانية معناها ووُجهت لدين لم تكن
تستهدفه في نشأتها الأولى!
والحقيقة فإن العلمانية عند
العلمانيين الجدد ليست سوى أداة في معركة سياسية، بعد أن جرى تفريغها من مضمونها،
فتنص الدساتير الغربية على الديانة، بل وتتجاوز بعضها ذلك إلى اشتراط مذهب معين في
شاغل موقع الرئيس. وتفرض السلطة في مصر أجندتها الدينية ويتحول رئيس الدولة إلى
واعظ، وتتدخل الكنيسة في شؤون السياسة، فلا يرون في هذا ما يتعارض مع العلمانية،
لأن العلمانيين الجدد ليسوا نتاج منطلق فكري، لكنهم من مخلفات "مشاجرة
شوارع" في ميادين السياسة!
انتهت حلول الأرض:
وقد أخذتهم الرجفة، عند أي
محاولة لتفسير هذا الوباء الذي ضرب العالم كله، بأن له صلة بالسماء، أو أنه أداة
عقوبة أو ابتلاء منها، في الوقت الذي لا يحركون فيه ساكنا ولا يشعرون أنهم طُعنوا
في شرفهم الفكري، وقادة غربيون يندفعون في طلب الرحمة من الله، كما فعل رئيس وزراء
إيطاليا عندما قال: "انتهت حلول الأرض.. الأمر متروك للسماء"، وكما فعل
ترامب وهو يخاطب الإنجيليين: "الله إلى جانبنا"، بل ويعلن: "الله
اختارني للقيام بهذه المهمة"، ودعا للصلاة لمواجهة كورونا، ولنستدعي الخطاب
الديني للسيسي لمواجهة الوباء والذي أنهاه بدعاء صار مقررا تلفزيونيا. ثم لا تنسى
أن نجيب ساويرس، الراعي الرسمي لهؤلاء، هو من دعا إلى صلاة جامعة لأصحاب الديانات
السماوية لمواجهة الفيروس وتداعياته!
وقد جُبل الانسان بفطرته
السليمة التي لم تتعرض للتشويش على اللجوء للسماء عند المحن، فإن لم يكن في سمائه شاغل
بحث عنه، إلا العلمانيين الجدد، الذين يحسبون كل صيحة عليهم، وكأن السماء شأن إخواني
خالص، يمثل اللجوء إليها خصما من رصيدهم هم في الشارع وإضافة لرصيد الغير، وهذا هو
أس الداء، وكأن لهم حضورا في الشارع ستؤثر فيه هذه النوازل.
الملف لم يُغلق:
يذكرني زميلي بما قلت له
وأنا أحاوره قبل ظهور الوباء وتداعياته مباشرة، كنا نتحدث عن واقعة قتل الصحفي
السعودي جمال خاشقجي بالإجرام الذي تمت به العملية، وكيف أنهم لم يكتفوا بإنهاء
حياته بطريقة مريحة، بحقنة هواء، أو ما شابه، أو بالتخلص منه بالسم، لكنهم اختاروا
طريقة أشد بائسا وأعظم تنكيلا، وهو أن يقطعوا جسده حياً، وكأنه ذبيحة، وما فعلوا
هذا إلا لإحساس متناه بالقدرة وكأنهم لا يقدر عليهم أحد!
إن رأس كل خطيئة كان يدرك
أنه وضع زعيم العصابة الأكبر في البيت الأبيض في جيبه، وأنه قادر على تأميمه
بمقابل أن يدفع له، ليفعل ما يشاء، بدون خوف أو وجل!
والقاطن في البيت الأبيض
يظن أن عالمنا العربي كله لا شيء، وتدخل لحماية زعيم العصابة ونجح في هذا!
والغرب كله الذي يثور لقطة تقطعت
بها السبل، ظهر على حقيقته فلا إنسانية هناك ولا مشاعر رقيقة، والجميع يتستر على
هذه الجريمة الشنعاء، ويبدو الرئيس التركي وحيداً في هذه المعركة التي هزمت فيها
الإنسانية وانتصرت فيها شريعة الغاب!
إن التاريخ سيقف طويلاً
أمام ما جرى في القنصلية السعودية بإسطنبول، وأمام تستر العالم على ما جرى فالقتيل
فرد بلا دية، والقادة ليسوا أكثر من مجموعة من المرتشين الذين لا تحكمهم قيمة، ولا
يحركهم مبدأ!
كنت أقول لصاحبي إن الملف
طوي في الأرض، لكنه لم يطو في السماء، وأن الذين تستروا على جرائم الإبادة في مصر،
والقتل وحرق الجثث في يوم الهول، وتستروا على تقتيل السوريين، ستنزل عليهم صاعقة
من السماء لا تصبين الذين ظلموا منهم خاصة!
كان رأيي أنه في مواجهة هذه
الجرائم والتستر عليها ستتدخل السماء.. وأن القضية مفتوحة لم يحسم فيها بعد، ولا
يمكن أن تمر هكذا، وبدا في هذا العالم الموحش مئة حجاج بل ألف حجاج، وإن كانوا
مثله في إجرامه فلم يمتلكوا عاطفته التي حضرت بعد فوات الأوان وظلت تؤرقه على قتله
سعيدا بن الجبير، ولعل ما حاق به كان بسبب دعوة الضحية: اللهم لا تسلطه على أحد من
بعدي! فظل يأتي له في المنام فيمسك بتلابيبه وهو يسأله: يا عدو الله لماذا
قتلتني؟!.. فيستيقظ الحجاج بكل إجرامه من منامه وهو يقول في حسرة: ما لي وسعيد بن
جبير"؟، ولم يلبث أن مات بعد أربعين يوماً من قتله سعيدا!
كم سعيدا قتل المجرمون في
حماية من القادة الغربيين، الذين تبدت سوءاتهم للناظرين؟ إن الملف لم يغلق رغم هذه
الحماية، وهذه القدرة على الإجرام!
فهل فيروس كورونا هو عقاب
من السماء؟.. أنا لا أظنه إلا عقابا من السماء!