مقالات مختارة

منظمة الصحة العالمية والوباء المعولم

1300x600

في الأدبيات الخاصة بتحليل إدارة الأزمات الدولية يتم التركيز على عدة أبعاد؛ المعلومات والقيادة والمؤسسات المعنية بإدارة الأزمة، وأبعاد أخرى كالتقنيات الاتصالية وتطبيقات الذكاء الصناعي، وتلك بدورها مرهونة بمدى توافرها من جانب، وبمدى قدرة المجتمعات على توظيفها توظيفا أمثل ومدى ملاءمتها للأزمة المنظورة من جانب آخر. وفي فاشية «كورونا المستجد» التي يعيشها العالم بقلق متزايد وقدر هائل من الترقب للحظة التي يعلَن فيها احتواء الوباء والعودة إلى الحياة الطبيعية، أو بالأحرى الطريقة التي اعتادت عليها المجتمعات والشعوب من قبل، يتبين أن دور المؤسسات الدولية التابعة لمنظومة الأمم المتحدة والتي توجه النشاط العالمي في قطاع بعينه، كقطاع الصحة، لا يقل أهمية عن دور الحكومات أو منظمات المجتمع المدني المحلية أو العالمية. وفي أزمات معينة تواجه البشرية بأسرها، ويتخبط فيها القوي والضعيف، يكون هذا الدور حاسما ورئيسيا، من حيث متابعة تطور الأزمة ومراقبة تقلباتها ووضع التصورات العلمية والمنهجية لمواجهتها، ورسم السياسات الاسترشادية التي تتبعها الدول لاحتواء التهديد وبالتالي التعافي الكامل.


أبرز هذه المنظمات التي يسعى المرء إلى معرفة بياناتها وشروحاتها وتحذيراتها وتوصياتها هي منظمة الصحة العالمية، التي تعد لاعبا رئيسيا وضروريا في مواجهة فيروس «كورونا المستجد». والتي يصادف اليوم (الثلاثاء السابع من أبريل/ نيسان) يوم بدء عملها عام 1948. وهو اليوم الذي يعد يوم الصحة العالمي. ومن قبل لم تكن الاحتفالات الرسمية بهذا اليوم تشد انتباه الجمهور العام، ولم تكن أخبار المنظمة رغم حيويتها وأهميتها تزيد في أفضل الأحوال عن بضعة أسطر في أي وسيلة إعلامية أو صحافية، على عكس ما نعيشه في أيامنا الحالية ولفترة طويلة مقبلة، حيث تتصدر المنظمة التغطيات الإعلامية محليا وعالميا حول تطور الوضع الوبائي في هذه الدولة أو تلك، وما يجب أن يحدث، والنصائح بشأن التصرفات الوقائية المطلوبة فرديا وحكوميا.


ووفقا لميثاق المنظمة فإن وظيفتها الأولى هي ضمان الحصول على الرعاية الصحية الأساسية لكل البشرية، ودعم صحة الأفراد والشعوب كافة إلى الوضع الذي يتمتع فيه كل إنسان بوضع صحي متكامل ومتجانس بدنيا وعقليا واجتماعيا وليس فقط مواجهة الأمراض لا سيما المُعدية والوبائية. وفي هذا الإطار كانت لها إسهاماتها الكبرى في مواجهة أمراض وبائية كـ«الكوليرا» و«الجدري» و«إيبولا» و«سارس» و«ميرس»، ولها أدوار مشهودة في تحسين صحة الأم والطفل خلال الحمل والولادة ومواجهة شلل الأطفال، خصوصا في البلدان الفقيرة والنامية، ومنذ 2004 وإلى الآن تلعب دورا مهما في إعداد اتفاقية دولية بشأن مخاطر التبغ، والآن مواجهة فاشية «كورونا المستجد»، وكل ذلك يتطلب تعاونا وثيقا مع الحكومات والإدارات المحلية المعنية بالصحة، في أثناء الاستعداد للمواجهة أو في حالة المواجهة ذاتها، ثم فيما بعد احتواء التهديد الوبائي، حين التوصل إلى علاج ناجح ولقاح موثوق. ويعد الجانب التوثيقي للخبرات المحلية الذي تقوم به منظمة الصحة العالمية ذا فائدة كبرى للبشرية ككل، تُبنى عليها الخطوات المقبلة في أي حالات مماثلة.


كانت المنظمة قبل ثلاث سنوات قد قدمت تقريرا حذّر من أن العالم ليس مستعدا للتعامل مع فاشية كبرى. وهو ما حدث بالفعل. وبالنسبة إلى «كورونا المستجد»، فخبراء المنظمة يعترفون بأمرين مهمين؛ أولهما أن هذا الفيروس المستجد ليس معروفا من قبل، ولذا فهناك ثغرات علمية وطبية بحاجة إلى ملئها من خلال التعاون الوثيق مع المؤسسات الطبية في الحكومات المختلفة، وبالتالي فإن الإجراءات الاحترازية فرديا وجماعيا تمثل الخطوة الأهم في المواجهة، والثاني أن التعاون الدولي الشامل هو الأسلوب الذي لا غنى عنه لتشكيل حائط صد إنساني ضد هذا الفيروس. وفي إطار هذين السياقين يلاحظ المرء، لا سيما في بلادنا العربية التزاما جيدا بتوصيات المنظمة وإرشاداتها، وفي كل البيانات التي تصدرها الجهات المعنية إشارة لازمة ومكررة تفيد بأن العزل الصحي الفردي أو الجماعي يتم وفقا لبروتوكول المنظمة الدولية، بوصفه الأكثر مصداقية وغير قابل للنقد، كما تفيد أيضا بأن العلاجات التي تُقدّم للمُصابين بالفيروس هي علاجات قائمة على توصيات المنظمة الدولية، وبالتالي فهي ليست اجتهادات فردية أو محلية.


ما تقدمه منظمة الصحة العالمية لجميع الدول من توصيات وإرشادات وخبرات لا يقابَل بالضرورة بالقدر اللازم من الجدية المطلوبة، فالعديد من الدول الأوروبية والغربية تهاونت في البدايات، ما دفعها إلى دورة معاناة وألم وتضحيات غير واضح متى ستنتهي. وفي الأسبوع الماضي ركزت المنظمة اهتمامها على لفت الأنظار للوضع القائم في أفريقيا، والتي لم يصدر عن كثير من الدول فيها بيانات محددة عن وضع الفيروس فيها كعدد الإصابات المؤكدة أو المشتبه بها أو الإجراءات الاحترازية ومدى توافرها، إما لمرورها بحالة سياسية متوترة، وإما لفقدانها القدرات الصحية البشرية والمادية التي تعينها على رصد الوباء من عدمه. وهو ما يضع أعباء كبرى على المنظمة الدولية، من قبيل تشكيل مجموعات عمل لهذه البلدان لمساعدة مؤسساتها الصحية المتواضعة وتوفير إمكانات مادية مناسبة كالأجهزة الطبية ومستلزمات الوقاية والعلاجات الأولية وغير ذلك من ضرورات المواجهة. وتلك بدورها تستدعي توافر أموال هائلة سواء من ميزانية الأمم المتحدة، أو مساعدات من دول كبرى وتبرعات مؤسسات دولية، أو مخصصات من البنك الدولي تُوجّه للوقاية من فيروس «كورونا المستجد» في البلدان الفقيرة الأفريقية والآسيوية.

 

وبالفعل اتفقت المنظمة والأمم المتحدة و«يونيسيف» على توفير مبلغ ملياري دولار كخطة استجابة إنسانية عاجلة لمكافحة الوباء في بعض البلدان الأكثر ضعفا في العالم، ولمنع تحوله لدورة جديدة من الهجوم مستقبلا.


مثل هذه المنظومة تعيد الاعتبار لفكرة أن العالم المعاصر هو عالم واحد، رغم ما فيه من منافسات واحتكاكات وصراعات، لكن مصيره متشابك وكل فرع فيه يعتمد على الفروع الأخرى. ما يعني أن العولمة بوصفها منظومة تشابُك إنساني متعدد المستويات، التي غالبا ما تُنتقد بوصفها أفقرت الفقراء وأغنت الأغنياء، ما زالت تنطوي على مؤسسات ومنظمات تفيد البشرية جميعا، ولا يمكن الاستغناء عنها. وأن التبشير بتراجع العولمة في ظل بروز توجهات شعبوية سادت مؤخرا في بعض القوى الرئيسة وما فيها من انطوائية وعنصرية وتوجهات الانكفاء على الذات، هو تبشير في غير محله. وربما لو تصورنا غياب منظمات دولية مثل «الصحة العالمية» في زمن «كورونا» و«سارس» و«إيبولا»، فحتما سيكون العالم أكثر قتامة مما هو عليه الآن، ولأدركنا أن العولمة ليست شرا بالمطلق، وأن على البشرية حين تستخلص دروس «كورونا» أن تتمسك بتلك المنظمات التي تجسد وحدة الإنسانية، وتعمل على دعمها وتعزيز دورها.

(الشرق الأوسط اللندنية)