الكتاب: "شهادتي على عصر عبد الناصر.. سنوات الانتصار والانكسار"
المؤلف: صلاح منتصر
الناشر: دار أخبار اليوم، سلسلة "كتاب اليوم"، القاهرة ـ الطبعة الثالثة ـ 2020.
توزعت النسبة الأكبر من الكتب عن جمال عبد الناصر، و نظام حكمه، ما بين تقديس الرجل، و تدنيسه! وكلا النوعين أخذ عبد الناصر، منذ تولي الحكم إلى أن وافته المنيَّة (نحو 18 سنة)، صفقة واحدة، إذا جاز التعبير، بينما مر عبد الناصر، سياسيًا، بخمس مراحل، يكاد يفصل بين كل منها سور صيني شاهق.
أولها المرحلة الوطنية البحتة، التي بذل عبد الناصر قصارى جهده فيها، لإخراج الاحتلال البريطاني من مصر (1952 ـ 1954)، ونجح عبد الناصر في هذا الأمر، وإن توهَّم بأن الإدارة الأمريكية جمعية خيرية، ساعدته في إخراج المحتلين البريطانيين، لوجه الله! وليس لكي تحل تلك الإدارة محل ذاك الاحتلال، وإن بدون قوات عسكرية. لذا، اتسمت تلك المرحلة بنظرة عبد الناصر الوردية إلى الامبريالية الأميركية، باعتبارها "زعيمة العالم الحر".
وبعد توقيع عبد الناصر "اتفاقية الجلاء" مع البريطانيين، أواخر تشرين الأول / أكتوبر 1954، أخذ يفقد صبره مع الإدارة الأمريكية، التي لم تفِ بوعدها، تنمية مصر، و تسليح جيشها. وربطت تلك الإدارة تنفيذ هذين الوعدين بإقدام عبد الناصر على عقد صلح مع إسرائيل.
كان عبد الناصر يتناول طعام العشاء، على مائدة هنري بايرود، السفير الأمريكي الجديد في القاهرة، مساء 28 شباط / فبراير 1955، وألح الرئيس المصري على بايرود في طلب السلاح، والتنمية، بعد أن طال تهرُّب الإدارة الأمريكية من تنفيذ وعودها بصددهما. ووعد بايرود عبد الناصر بأن يفعل.
وحين عاد الأخير إلى منزله، وصله هاتف من غزة، أفاد بوقوع عدوان إسرائيلي جديد، ذهب ضحيته 39 جنديًا مصريًا، وسودانيًا، وفلسطينيًا. وفي اليوم التالي، اندلعت انتفاضة عارمة في قطاع غزة، من أقصاه إلى أقصاه، هتفت بسقوط عبد الناصر، وفي اليوم الثالث من هذه الانتفاضة، طلب عبد الناصر إبلاغه بمطالب المنتفضين، فوصلته، وأعلن موافقته عليها، وهي التي تمثلت في إلغاء "مشروع سيناء" لتوطين اللاجئين، بعد أن رمت الاعتداءات العسكرية الإسرائيلية إلى إرغام اللاجئين في القطاع، على القبول بهذا المشروع، الذي رمى إلى طي القضية الفلسطينية، مرة وإلى الأبد.
والمطلب الثاني، كان تسليح القطاع، وتحصينه، وتدريب أهله. وأخيرًا، إشاعة الحريات الديمقراطية في القطاع. وكان طبيعيًا أن يفي عبد الناصر، بوعده فيما يخص المطلبين، الأول والثاني، أما المطلب الثالث، فيستحيل عليه تنفيذه، بينما حرم بلاده نفسها منه!
مع انتقال قواته إلى اليمن، خريف 1962، لدعم ثورتها، فزعت واشنطن من اقتراب عبد الناصر من منابع البترول، في الجزيرة العربية؛ فكانت حرب 1967، والهزيمة العربية المدوِّية فيها، وتداعياتها الكارثية. حتى أن عبد الناصر عرض على السوفييت، غداة هذه الهزيمة، دخول مصر ضمن دول "المعسكر الاشتراكي"، و"حلف وارسو"، فاعتذر السوفييت عن عدم قبول طلبه، وطلبوا إليه البقاء ضمن "دول عدم الانحياز".
هنا، دلف عبد الناصر إلى المرحلة الثانية من حكمه، ارتقى فيها وعيه السياسي؛ فاكتشف حقيقة القضية الفلسطينية، وأنها ليست مجرد قضية لاجئين، كما تأكد من الطبيعة الامبريالية للولايات المتحدة، وعلاقتها الحميمة بإسرائيل؛ فشكل عبد الناصر "الكتيبة 141 فدائيون"، من مقاتلين فلسطينيين، نجحت في قتل نحو أربعة آلاف إسرائيلي، في بضعة أسابيع، كما عقد عبد الناصر "صفقة الأسلحة التشيكية"، فأفلت من الفخ الأمريكي، و إن تطلَّع إلى علاقة ندّية من واشنطن، رفضتها الأخيرة، من منطلق: "مَن ليس معنا، فهو ضدنا"، بكلمات جون فوستر دلاس، وزير الخارجية الأمريكي (1952 ـ 1960).
ضغطت الإدارة الأمريكية، على عبد الناصر، لإلغاء تلك الصفقة، إلا أنه رد بعقد صفقة أسلحة أخرى؛ فتحوَّلت الإدارة الأمريكية إلى تكتيك احتواء النظام الناصري، وعرضت تمويل السد العالي في مصر، ومعها "البنك الدولي"، والحكومة البريطانية. لكن عبد الناصر أقدم على الاعتراف بالصين الشعبية، الأمر الذي كانت تؤثِّمه الإدارة الأمريكية، فسحبت عرضها بتمويل السد، وفي إثرها لندن، والبنك الدولي. فرد عبد الناصر بتأميم قتاة السويس (26/7/1956)، وتسارعت ردود فعل الدول الامبريالية، حتى كان "العدوان الثلاثي"، بدءًا من 29 تشرين الأول / أكتوبر1956، وإن أخفق هذا العدوان في تحقيق أهدافه؛ فتُوِّج عبد الناصر زعيمًا للأمة العربية، بلا منازع. ما جعله يدخل مرحلته الثالثة "الوطنية ـ القومية". وفي سياقها، تحققت الوحدة المصرية ـ السورية (22/2/1958)، وسرعان ما اندلعت ثورة وطنية في العراق، عبَّر عنها الجيش (14/7/1958)؛ ما أوصل المد القومي العربي إلى ذروته.
لكنه سرعان ما بدأ في الهبوط، مع إلحاح عبد الناصر على عبد الكريم قاسم، قائد النظام الثوري في العراق، كي يُدخل العراق في وحدة اندماجية فورية مع "الجمهورية العربية المتحدة". وحين رد قاسم باقتراح اتحاد فيدرالي بينهما، قامت قيامة عبد الناصر، ولم تقعد، وكال تُهم معاداة الوحدة لقاسم، ومن آزره، وفي مقدمتهم الشيوعيون، الذين خصهم عبد الناصر بأشرس حملة دعائية، وأمنية؛ فاعتقل الشيوعيين في مصر، وسوريا، و قطاع غزة، لأكثر من خمس سنوات. بينما تخبَّط حكمه في سوريا، ما سهَّل انفصالها عن مصر (28/9/1961).
مع حملة عبد الناصر الجائرة على قاسم، والشيوعيين، استجدت نقطة تقاطع بين نظام عبد الناصر، والإدارة الأمريكية، وشهدت الأعوام الثلاثة (1959 ـ 1962) ترطيبًا مطردًا للعلاقات بينهما، وإغداق الثانية شتَّى المعونات على مصر. وبذا، يكون النظام الناصري دخل في مرحلة اقتراب شديد مع الإدارة الأمريكية، وركائزها من حكام العرب، لكن مع سقوط نظام قاسم في العراق (8/2/1963)، فإن واشنطن سارعت إلى قطع معوناتها عن مصر، بما فيها شحنات القمح، ما دفع عبد الناصر إلى الاستنجاد بالسوفييت، الذين سارعوا إلى مده بالقمح.
بذا، انفتح الباب للمرحلة الخامسة والأخيرة، التي ازداد عبد الناصر فيها قربًا من "المعسكر الاشتراكي"، فأصدر ما أسماه "القرارات الاشتراكية"، صيف 1961، والتي لم تكن أكثر من "رأسمالية الدولة الوطنية"، التي فك فيها عبد الناصر مدخرات الأغنياء في البنوك، وموَّل بها مشاريعه الاقتصادية.
ومع انتقال قواته إلى اليمن، خريف 1962، لدعم ثورتها، فزعت واشنطن من اقتراب عبد الناصر من منابع البترول، في الجزيرة العربية؛ فكانت حرب 1967، والهزيمة العربية المدوِّية فيها، وتداعياتها الكارثية. حتى أن عبد الناصر عرض على السوفييت، غداة هذه الهزيمة، دخول مصر ضمن دول "المعسكر الاشتراكي"، و"حلف وارسو"، فاعتذر السوفييت عن عدم قبول طلبه، وطلبوا إليه البقاء ضمن "دول عدم الانحياز".
هذا هو ما يمكن تسميته بالإطار العام للمراحل، التي مرت بها ثورة تموز (يوليو)، ونظام حكمها، في مصر، لكن ماذا عن كتاب صلاح منتصر، في هذا الصدد؟! هذا هو مدار الجزء الثاني من شهادة صلاح منتصر على حكم عبد الناصر لمصر.
الاستشراق المتأسلم في فرنسا.. خبايا حملة نابليون على مصر
كيف تُحوّل الشعبوية مسار الديمقراطية؟ قراءة في كتاب
قراءة في تجليات "الربيع العربي" في لبنان وفلسطين واليمن