اتسمت العلاقة بين الهيئات القائمة على الشؤون الدينية
الإسلامية وبين المجتمع بالاستقرار طوال قرون، ولما بدأت المنطقة تعرف أنظمة قومية
تحكم على أسس وستفالية، نشأ صدام بين أنصار "الجامعة الإسلامية" وأنصار "الجامعة
القومية"، وكان من نتائج هذا الصدام أن عمدت النظم الحاكمة إلى بسط سيطرتها
على الهيئات الأهلية وفي القلب منها الهيئات الدينية، والاعتناء بمأسستها بحيث
تصير رسمية؛ تأتمر بأمر الدولة، وتتحرك بإذنها، وهو الأمر الذي لم تستجب له كل
الهيئات، فتعمّق الصدام بين كبرى الهيئات الدينية (الأهلية) في المنطقة وهي جماعة
الإخوان المسلمين، وبين النظم السياسية الحاكمة التي تُوصف بأنها أقرب للعلمانية
في شؤون إدارة الحكم.
نشأ الخلاف في ظل السياسة، واحتدم الصراع في ظل المنافسة
على السلطة، وسالت الدماء لما نجح الإسلاميون في الوصول إليها، سواء في الجزائر أو
في مصر، مع تجربة ليست بنفس الحدة في فلسطين عامي 2006 و2007. وهذه الحالة دفعت
الأنظمة الحاكمة إلى تشويه الحركات السياسية الإسلامية، وجماعة الإخوان المسلمين
تحديدا باعتبارها الجماعة الأكبر، ثم تسلل إلى الخطاب المعارض لهذه الحركات خطاب يقدح
في مفاهيمها عبر القدح في الفقه الإسلامي من باب تعدد تفاسير النص الديني، وأخيرا
تسلل خطاب يهاجم الموروثات الدينية بدعوى التجديد الديني.
دخلت الهيئات الدينية (الرسمية والأهلية) في صراع مع
النخب العلمانية (الحاكمة والمثقفة) حول الموروث الديني، ولا تزال الخلافات بين
الطرفين قائمة، بل اشتعلت بسبب الممارسة السياسية للحركات السياسية الدينية. لكن
المتتبع لحالة الجدل الإسلامي- العلماني في المجتمع المصري يجد بوضوح تفرقة بين رد
فعل الهيئات الدينية مع المسائل المستحدثة، وبين رد فعلها مع الأحكام الدينية
الشرعية. فمثلا وقف الأزهر موقفا قويا أمام مسألة الطلاق الشفهي رغم المطالبة
العلنية لرأس النظام بتقييده، لكنه في ذات الوقت استجاب بصورة لافتة إلى غلق
المساجد في سابقة ربما لم تحدث في تاريخ الإسلام من قبل على مدار قرونه الطويلة.
لم تكن هذه الاستجابة محصورة في مصر، بل كانت موجودة في
معظم الدول الإسلامية، كما كان لافتا أن الهيئات الدينية الأهلية الكبرى في العالم
الإسلامي لم تقف أمام هذه الإجراءات، وربما كانت الخروقات محدودة في الدول التي
طالبت بتقييد التجمعات لأجل العبادة سواء في الدول ذات الأغلبية المسلمة، أو
الجاليات المسلمة في الغرب، مما يشير إلى أن الهيئات الدينية لديها اعتبارات تفرق بها
بين ما تقبل فيه التحديث وبين ما لا تقبله فيه.
على مدار التاريخ الحديث لمصر، لم نجد معارضة توصف بالشرسة
أمام عمليات تحديث المجتمع، فمثلا عندما طالبت السيدة هدى شعراوي بإلحاق الفتيات
بالتعليم الجامعي عام 1924، كانت لدينا طالبات في التعليم الجامعي عام 1926،
وتخرجت محامية وقائدة طائرة وغيرهن عام 1930، وعندما كانت هناك تظاهرات للسيدات
خلال ثورة 1919 لم يذكر المؤرخون أن الهيئات الدينية انتفضت لمشاركة المرأة، وغير
ذلك من الوقائع التي تشير إلى أن ما يرتبط بالحقوق السياسية والاجتماعية
والتعليمية لم يجد ما يعيقه، إلا إذا كان هناك استقرار (إجماع) فقهي على رفضه، مثل
مسائل التسوية في الإرث، وما يندرج الآن تحت قانون الأحوال الشخصية، بل حتى الجدل
الذي صاحب قانون الخُلع مر باعتباره جدلا ساخنا، لكنه لم يشهد التظاهرات
والاعتراضات التي تمنع صدور القانون، وتم إعطاء المرأة حق إنهاء الرباط الوثيق.
هذه الإشارة التاريخية الخاطفة، تأتي لتؤكد أن موقف
الهيئات الدينية الأهلية والرسمية من مسألة منع التجمعات الدينية بسبب فيروس
كورونا ليست وليدة اليوم، بل لها امتداد تاريخي صلب ومتجذر، مع ملاحظة أن قرار منع
إقامة الصلوات ليس أمرا هيّنا، لارتباطه بأهم العبادات الدينية الإسلامية على
الإطلاق، وغلق المساجد ليس أمرا سهلا، وما يُقارب المستحيل قرار إغلاق الحرمين
ومنع إقامة الصلوات فيهما ومنع إقامة شعيرة العمرة. فهذه الأمور لا يمكن التعامل
معها باستخفاف، ولا يمكن التقليل بوعي متخذي القرار في الهيئات الدينية التي أصدرت
ذلك القرار، أو الهيئات الدينية الأهلية التي لم تقف معارضة له، وربما كانت هذه
الهيئات تستحق الاحتفاء الكبير والشديد بوعيها واستجابتها.
الملفت أن الذين ينتقدون الهيئات الدينية لم يأبهوا
بشجاعتهم في أخذ هذه القرارات شديدة الصعوبة والتعقيد، كما لم يأبهوا باستجابة
المسلمين في تلك البلدان، واستجابة الجماعات الدينية الكبرى، كما لم يلتفتوا إلى
أن هذه الهيئات تقف الآن أمام المتخصصين باحترام. فالقرار الطبي هو الذي أدّى إلى
القرار الديني، لكن في المقابل لا نجد ممن يطالبون بالتجديد الديني أي اكتراث بالقواعد
العلمية في الاجتهاد، وليت "التنويريين" يستفيدون من "الأصوليين"
في احترام التخصص ولزوم الحدود العلمية في ما استقرت عليه قواعد العلوم بتنوّع
صورها.
كورونا.. السيناريو الأخطر الذي لا تخبرنا به الحكومات!