كثيرا ما كانت تشتكي الدول الأوروبية من أعداد
المهاجرين الواصلين إليها، وكثيرا ما كانت تصرخ بالفم الملآن للحدّ من أعدادهم
بعدما صاروا عبئا ثقيلا عليها، لكنها اليوم بعد التفاني العظيم الذي قدّمه
هؤلاء
المهاجرون في التصدي لوباء
كورونا، غيّرت الأداء، واستبدلت أصوات الترحيب بأصوات
الضجر منهم، بعدما اكتشفت متأخرة أهميتهم وإنسانيّتهم التي لا حدود لها، فأنْ تصل
متأخرا خيرٌ من ألا تصل أبدا.
جميلة جدا تلك التصريحات الإعلامية التي تصدرت
الصحف الأوروبية، التي تُشيد بدور المهاجرين في زمن الوباء والحجر المنزلي، وتفانيهم
الكبير في رعاية كبار السن وتأمين المستلزمات.
فإيطاليا التي كان لها حصة كبيرة من الوفيات والإصابات،
كانت أكثر الدول اعترافا بفضل المهاجرين، بعدما قصّرت الدول الأوروبية كثيرا في
حقها، واليوم تقرر إيطاليا أن تمنح ما يقارب 600 ألف مهاجر غير شرعي تصاريح
الإقامة والعمل فوق أراضيها، بسبب دورهم الكبير في رعاية المسنّين، وتأمين
المحاصيل الزراعية والعمل في الحقول والمخاطرة بأنفسهم في سبيل ذلك، رغم احتمالات
الاعتقال والتعرض للمطاردة والتهجير. فهؤلاء "الدراويش" الذين تعثرت بهم
السبل، والذين أُخرِجوا من بلادهم بفعل طامة الحروب والفقر، هم ذاتهم الذين
تألّقوا في زمن كورونا، وراحوا يعملون خفية عن السلطات في جني المحاصيل وتقديمها
للمسنّين المحجورين في بيوتهم، وراحوا يعتنون بكبار السن أيّما اعتناء، ويمنحونهم
من العطف والحنان الكثير الكثير، وذلك بعد أن خيّم القلق على وجوههم بسبب كثرة
التصريحات الغبيّة، التي تقول إنّ كبار السن لا بدّ لهم من الموت إذا ما حلّ كورونا
ضيفا على صحتهم.
وفي الوقت الذي كان يُهاتف فيه
الأطباء كبار السن،
ليخيّروهم بين الموت سريريا في أروقة المشافي أو الموت في المنزل، كان هؤلاء
المهاجرون يخيّرونهم بين التنزّه معا في حديقة المنزل أو الحقول المجاورة، ويرافقونهم
في رحلة الخطر، وهم المطارَدون من الشرطة، والمحفوفون بالمخاطر والمهدَّدون
بالترحيل.
الوزير الإيطالي جوزيبي بروفينزانو قال: "الطعام
على طاولاتنا كان يأتي من تلك الحقول، والآن علينا أن نمنح العاملين فيها الحقوق
التي سُلِبُوها".
وزيرة الزراعة أيضا شاركت زميلها في تقديم هذه
المرحى الممنوحة للمهاجرين، وأكدت أنّ قرار منح المهاجرين حقوق الإقامة والعمل
في طريقه إلى الاستصدار، وهو في انتظار تصويت البرلمان الإيطالي عليه، بعدما
اعتبرت تواري المهاجرين عن الأنظار وهروبهم من السلطات خوفا من الاعتقال، هو
مشكلة أخلاقية لإيطاليا قبل أن يكون مشكلة طبية، في إشادة واضحة منها بدورهم في
زمن كورونا، رغم تعالي بعض الأصوات الكارهة للمهاجرين التي عبّرت عن رفضها لهذا
القرار، وآثرت إلا أن تبقى في بوتقة العنصرية والعداء للمهاجرين، ولا تريد أن
تتقدم ولو سنتيمترا واحدا نحو الحقيقة.
إشادة فردية
لم يكن الدور الإنساني للعرب والمهاجرين في زمن
كورونا جماعيا دائما، بل كانت هناك أمثلة كثيرة عن تفاني الأفراد في خدمة المرضى
والمصابين، مما دفع مَن عاينَ المشهد إلى الإطراء والمديح.
فالأطباء العاملون في مشفى العاصمة البلجيكية بروكسل
على سبيل المثال، كانوا قد وقفوا على مدخل العناية المركّزة، بانتظار زميلهم
الطبيب الفلسطيني محمد مراد الذي تعافى من إصابته بفيروس كورونا في أثناء تأديته
واجبه الإنساني، وما إنْ ظهر الطبيب على سرير المريض عند البوابة، حتى بدأ التصفيق
والهزج، ليخرج الطبيب من بينهم ملوّحا لهم بإشارة تذكّرني بإصبعَي النصر اللذين
يُرفعان بعد خوض المعارك الضارية، وأين الفرقُ في المعركتين إذا كان جيش كورونا قد
ألزمَ الناس في بيوتهم أكثر مما فعل الطيران والقتال؟!! فالطبيب محمد مراد أبى إلا
أن يبقى بين الأسرّة والممرات يُعاين المصابين ويقدم لهم كل ما يلزم، ولم يتخلَّ
عن إنسانيته كما فعل جُلّ أطباء الأسرة الذين أغلقوا هواتفهم في وجوه مرضاهم، ولم
يستقبلوا مريضا واحدا خوفا من انتقال العدوى، في حين حمل أطباؤنا حقائبهم
الخالية من كل شيء، إلا من الإنسانية التي دفعتهم إلى المغامرة والمقامرة في زمنٍ
التزم فيه الناس منازلهم.
ثالثا: لم تكن إيطاليا وبلجيكا الدولتين الوحيدتين
اللّتين شهدتا مثل هذا النوع من الحالات، بل كانت بريطانيا سبّاقة في ذلك، إذ إنّ
أول ثلاثة أطباء فُقِدوا هناك في أثناء وجودهم في الصفوف الأمامية هم أطباء مسلمون:
حبيب زيدي، أمجد الحوراني، وعادل الطيار، وهم الذين كانوا موضع فخر واعتزاز
للجالية المسلمة في بريطانيا، التي نعتهم بمشاعر اختلط فيها الحزنُ والفخر.
فالطبيب السوداني الراحل أمجد الطيار رغم أنه
متقاعد، إلا أنه سارع إلى النفير العام بعد تفشي الوباء وازدياد عدد الإصابات، وتوجّه
إلى ميدان المواجهة وارتدى سلاحه الطبي الثقيل، ليلاقي حتفه في أثناء عمله.
ليس هذا فقط، بل إنّ الطبيب حبيب زيدي كان قبل سنتين
قد حصل على شهادة التميز من المشفى الذي يعمل فيه، إذ وصفه المشفى بأنه أسطورة لا
تُقهَر.
من أين جاء هؤلاء بكل هذا العناد؟!! ومن أين اكتسبوا
هذه الإنسانية التي يفتقدها الكثيرون، وكيف لهم أن يغامروا بأرواحهم في سبيل إنقاذ
المرضى والمصابين؟!! ولهذا حُقّ على التاريخ البريطاني أن يسجّل في أثناء توثيقه لزمن
كورونا، أنّ أول ثلاثة أطباء فُقِدوا في أثناء تصديهم للوباء في البلاد هم أطباء
مسلمون.