نكبة كل يوم

قامت الجيوش العربية بالدخول إلى فلسطين لتحريرها يوم 15 أيار/ مايو من عام 1948، وذلك ردا على إعلان قادة الاحتلال الصهيوني إنشاء دولتهم، ومنذ ذلك اليوم لا يكاد أي امرئ عربي ذي كرامة يعرف فرحة كاملة أو عِزّة تامة بعد ذل احتلال الأرض.

من المهم تذكّر التاريخ الغائب في اللحظات الأولى لحرب التحرير، فقد توجهت جيوش الأردن والعراق وسوريا ولبنان ومصر والسعودية إلى فلسطين لتحريرها، وخلال أيام أوشكت القوات العربية على محاصرة تل أبيب، فصدر قرار من مجلس الأمن يوم 22 أيار/ مايو 1948 يوجّه فيه بوقف القتال، ولم تمتثل له الجامعة العربية، ثم عاد مجلس الأمن ليجدد طلبه، فأعلنت الجامعة العربية قبولها الهدنة لمدة أربعة أسابيع، تبدأ يوم 11 حزيران/ يونيو 1948. ومع الهدنة الأولى بدأت الكارثة.

سيتحدث البعض هنا عن دور "أبو حنيك" الذي كان قائدا للجيش العربي الأردني، وضغطه لقبول الهدنة الأولى. وأبو حنيك هو اللقب البدوي للسير جون باغوت غلوب، البريطاني الجنسية وقائد الجيش الأردني في نفس الوقت. ولك أن تتخيل أن بريطانياً سلمت دولته أرض فلسطين للمحتلين، سيقوم بتحرير نفس الأرض! كما لك أن تتخيل أن هذا الرجل الذي مُنح أوسمة عدة من دولته الاستعمارية، ظل في منصبه كقائد للجيش الأردني حتى عام 1956، الأمر الذي يعطي تساؤلا آخر ينضاف إلى كل التساؤلات المتعلقة بممارسات الشريف حسين وذريته. كما سينضاف تساؤل حول قيام الملك عبد الله الأول بتكليف "غلوب باشا/ أبو حنيك" بحل جميع التنظيمات المسلحة الواقعة في مناطق سيطرة الجيش الأردني، والأخطر من كل ذلك قيام القوات الأردنية بالانسحاب من مواقعها، مما أدى لخسارة أراض فلسطينية هامة، أيضا أدى الانسحاب إلى انكشاف القوات المصرية خلال القتال، وتعرض بعضها للحصار في مدينة الفالوجا.

كذلك سيتحدث البعض عن انسحاب بريطانيا من ميناء يافا (قبل موعد انسحابها الرسمي بشهرين)، فاستخدمته العصابات الصهيونية للأغراض الحربية وتدفق السلاح بكثافة. وخلال تلك الهدنة استطاعت العصابات تموين مستعمراتها، واغتيال المقاومين العرب في مناطق سيطرتهم لضمان عدم الشغب. وبعد الهدنة تغيرت موازين الحرب تماما، ليدخل العرب في مفاوضات، انتهت بالهدنة الثانية ومعاهدات عام 1949 التي مثّلت إعلان هزيمة للجيوش العربية، وإعلان مذلة العمر.

مرت 72 عاما على إعلان النكبة، ولم تتوقف خلالها جرائم الاحتلال الصهيوني خلال تلك العقود السبعة، وفي المقابل لم يتوقف جهاد الفلسطينيين لحظة.. جاهد النظام المصري لاسترداد أرضه المسلوبة، ونجح بشرف في معركة 1973، ونجحت المقاومة اللبنانية والفلسطينية في تحرير جزء من أرض بلديهما، لكن استسلم النظام السوري أمام مسبة الاحتلال وعاره، واستأسد على شعبه بالقمع والعدوان، وسلّمت باقي الأنظمة العربية قيادها لرغبات أخس احتلال وأحط عصابات حكم.

ما نشعر به إزاء فلسطين ليس مجرد ذل احتلال، ومهانة منع التحرير من قِبل أنظمة متواطئة، بل نشعر بفيض محبة ووثوق رباط، لا يبالغ المرء إذا قال أنه يبكي لذكر أحجارها ودروبها، فكيف بالتعاطف مع بَشَرِها؛ إخوة الدين واللسان والانتماء؟

فلسطين حاضرة في صلواتنا وقنوتنا وأفراحنا وأتراحنا؛ نرفع أعلامها في مباريات الكرة، ونتسلّى بعزيمة شعبها وقت الجنائز.. ذَوُو الشهيد بَضْعة منا؛ أمه أمنا، وأرملته أختنا، وأولاده أولادنا، ولا يحول بيننا وبين السلوى المباشِرة سوى حفنة ممن استبدلوا الخسة بالمروءة والمهانة بالكرامة والعمالة بالوفاء.

منذ هدنة 1949 كانت شعارات تحرير فلسطين كاذبة، ولا يوجد حاكم واحد كان يسعى لتحرير الأرض ومسح العار عن جبهة العروبة، بل انشغلوا بترسيخ مواقعهم على عروشهم التي انتزعوها بدعوى الاستقلال. وبينما كانت الدنيا تعمل لتجاوز آثار الحرب العالمية الثانية، كانوا يُعمِلون كل صور الاستبداد ضد شعوبهم لاكتساب مكانة في النظام الدولي الجديد. وللأسف كانت فلسطين بوابة المكانة لدى الشعوب فتمت المتاجرة بها، ولا تزال المتاجرة مستمرة مع دخول عملاء جدد من أبناء الأرض المحتلة.

الواقع أن ما جرى منذ 11 تشرين الثاني/ نوفمبر 1948 لم يكن هدنة، بل كان بداية القبول العربي بالاحتلال من القيادات العربية، وانضاف لقبول الاحتلال سعي النُّظم العربية إلى تركيع الفلسطينيين، خاصة مع تصاعد المقاومة. كما أن النظام العالمي المُرتهن للقرار الأمريكي جعل الأنظمة العربية في إطار ترسيخ حكمها، تقبل بأي إملاء أمريكي، ومفتاح الدخول على أمريكا يرتبط بالعلاقة مع دولة العصابات الصهيونية.

تعلمنا من الأستاذ الكبير فهمي هويدي خلال فترة سابقة من عمرنا، أن معيار الوطنية يرتبط بالقرب أو البُعد عن القضية الفلسطينية؛ إذ ستظل دولة العصابات الصهيونية تعمل ضد مصالحنا، وستظل مصالحها (بداهة) تتعارض مع مصالحنا وترتبط بضعفنا، وهذا ما يعرفه أي مواطن بسيط. لذا لم يعد مستغربا أن الفاسدين والمعاندين لحرية واستقلال الشعوب هم أكثر الناس ارتباطا بدولة الاحتلال، أو على الأقل هم الأكثر مقاومة لحركات التحرر الوطني، وسيظل هذا المعيار فارقا بيننا وبينهم، وسيظل صالحا في كل زمان حتى تتحرر الأرض من الاحتلال والاستبداد. إذ كل فساد بلغ هذه المنطقة نشأ وترعرع في ظل الاستبداد، والاستبداد نفسه نشأ وترعرع في ظل هذه النكبة.. نكبة كل يوم.

twitter.com/Sharifayman86