تجلس أم يوسف يوميا في المكان ذاته الذي اعتادت أن تشرب فيه القهوة مع نجلها قبل استشهاده، إذ اعتادت ذلك قبل أن يخرج إلى عمله باكرا؛ بعد أن توقظه مع أذان الفجر، ليجلس معها بعد عودته من المسجد، ويتبادلا الحديث لوقت قصير على شرفة منزلهما ثم يودعها ليذهب إلى عمله في قرية مجاورة.
ولكن منذ عام تقريبا، باتت أم يوسف تجلس وحدها وتحاكي طيف نجلها الذي أنهت حياته رصاصات الاحتلال دون مبرر، ولا سابق إنذار، وما يزيد من حرقتها، أنها لم تر جثمانه أبدا، بسبب احتجازه حتى الآن، ومنع عائلته من دفنه، وإلقاء نظرة الوداع الأخيرة عليه.
وليس الشهيد يوسف عنقاوي من بلدة بيت سيرا غرب رام الله، إلا واحدا من عشرات الفلسطينيين الذين تحتجز قوات الاحتلال جثامينهم لأهداف عدة، إحداها سياسية، وأخرى عقابية لعائلته، التي لا تملك سوى محاولات ضعيفة لاسترداد الجثمان.
وتقول أم يوسف لـ"عربي21"، إن قوات الاحتلال قتلت نجلها في شهر آذار/ مارس 2019، حين كان متوجها إلى عمله في قرية مجاورة برفقة صديقيه أحدهما استشهد، وهو أمير دراج، والآخر اعتقل، وهو الفتى هيثم علقم.
وتوضح بأن الاحتلال ادعى حينها بأن ثلاثتهم كانوا يحاولون تنفيذ عملية دهس لعدد من الجنود المتواجدين على مفترق طرق قرب قرية كفر نعمة؛ مبينة بأن الطريق كانت معتمة وتفاجأ الثلاثة بالجنود والآليات متوقفة على مفترق طرق مختفٍ بين الأشجار.
وتشير إلى أن الجنود وبعد أن أمطروا المركبة بالرصاص، وتأكدوا من استشهاد نجلها وصديقه وإصابة الآخر، قاموا بسحبهم منها وإخفاء آثار الدماء عن الشارع، كما صادروا تسجيلات آلات المراقبة للمحال التجارية القريبة من مكان الحدث، حتى لا يتمكن أحد من رؤية ما حدث حقا.
وتعتبر عائلة عنقاوي بأن استمرار احتجاز جثمان الشهيد حتى الآن محاولة لإخفاء الحقيقة التي تعلمها جيدا وهي أن نجلها كان متوجها فقط إلى عمله؛ وأن ادعاءات الجنود ما هي إلا محاولات لتبرير ما ارتكبوه.
وتلفت الوالدة إلى أن محاولات عديدة من العائلة تمت لاسترجاع الجثمان ودفنه بالطريقة الإسلامية في مسقط رأسه، ولكنها باءت بالفشل، ثم أصدر الاحتلال قبل عدة أشهر قرارا بدفنه في مقابر الأرقام السرية التي يعتقد أن إحداها تقع في شمال فلسطين المحتلة وأخرى في منطقة الأغوار.
وتضيف: "حاولنا عبر محامين أن نسترد الجثمان ولكن فوجئنا أن الاحتلال لا يريد أن يفتح أصلا ملف يوسف ويعتبره غير قابل للنقاش، رغم أن كل الدلائل تشير إلى أنه تعرض لعملية إعدام ميداني واضحة، ولم يكن يفكر في تنفيذ عملية دهس للجنود، فكيف لثلاثة شبان أن يقوموا بدهس جندي واحد وهم بداخل مركبة واحدة؟!".
وتتشابه حكاية يوسف مع قصة إعدام الشهيد فادي سمارة من رام الله عصر الجمعة الماضي، الذي كان متوجها لجلب زوجته وأطفاله الخمسة من منزل عائلتها؛ حيث أمره الجنود بالتوقف ولم يسمع صوتهم، فبادروا بإطلاق النار بكثافة صوب رأسه، ما أدى إلى استشهاده فورا.
ولم يسمح جنود الاحتلال لأي طاقم طبي بالوصول إليه، وسحبوا جثمانه من المركبة بعد أكثر من ساعة، حين تأكدوا أنه فارق الحياة.
ولكن كل التوضيحات هذه لم تساو شيئا لدى قيادة قوات الاحتلال ومخابراتها، التي تعتبر أن احتجاز الجثامين يشكل رادعا للفلسطينيين بعدم تنفيذ عمليات فدائية.
هدف سياسي
وعلاوة على ذلك، يرى الاحتلال أنه كلما احتجز جثامين لشهداء فلسطينيين زادت بذلك فرصته في إبرام صفقة تبادل مع المقاومة الفلسطينية التي تأسر عددا من الجنود في قطاع غزة؛ وأنهم سيكونون "كنزا" سياسيا له في مرحلة ما كما صرح عدد من القادة الإسرائيليين سابقا.
بدوره، يؤكد الناشط الشعبي عاهد الخواجا، بأن الاحتلال يخفي الكثير من الحقائق باحتجازه جثامين الشهداء بعد قتلهم، وأن ذلك هو أحد أهداف احتجازها كي لا يتعرض للمساءلة أو التحقيق.
ويقول لـ"عربي21"، إن ابن شقيقه الشاب سفيان الخواجا كان متوجها قبل شهرين تقريبا إلى منطقة داخل قريته نعلين غرب رام الله للتسوق بمركبته برفقة ابن عمه، فتفاجأ بإطلاق كثيف للرصاص صوبهما.
ويوضح بأن الرصاصات أدت إلى استشهاد سفيان وإصابة ابن عمه الذي تم اعتقاله قبل أيام قليلة؛ مبينا بأن جثمان سفيان ما زال محتجزا حتى الآن، دون وجود أي بوادر لتسليمه، في حين وصلت لوسائل الإعلام صورة مجهولة المصدر للشهيد وهو ينقل من الجنود وقد اخترقت الرصاصات رأسه.
ويتابع: "الصورة دليل كاف على أن ما حدث مع سفيان هو عملية إعدام مكتملة الأركان، فلنفترض أنه شكل خطرا على الجنود رغم أن ذلك مستحيل؛ ألم يكن بالإمكان اعتقاله مثلا أو إطلاق النار على عجلات المركبة إن أرادوا إيقافها؟".
ويشير إلى أن العائلة تحاول استرداد جثمان نجلها من أجل فضح جريمة الاحتلال، ولكن لا توجد استجابة من الطرف الإسرائيلي الذي يتجاهل أي طلب منها حول الجثمان، وكذلك يرفض فتح تحقيق فيما حدث بطلب من محامين وكلتهم العائلة.
ويرى الخواجا بأن الجهود التي تبذلها العائلات لاسترداد جثامين أبنائها كبيرة، ولكنها لا تكفي وحدها، فالمطلوب جهود سياسية وتنظيمية وشعبية مجتمعة من أجل وقف سياسة احتجاز الجثامين وكذلك فضح جرائم الاحتلال، حسب تعبيره.
أما المحامي محمد عليان، فكان قد خاض كثيرا من التجارب القانونية لاسترداد جثامين عدد من الشهداء بينها جثمان نجله الشهيد بهاء الذي قتله الجنود عام 2015 في القدس المحتلة وبقي جثمانه محتجزا لديهم لما يقارب العام.
ويقول لـ"عربي21"، إن المحاولات القانونية التي تقوم بها جهات فلسطينية تثبت بشكل لا يقبل الشك أن احتجاز الجثامين جريمة دولية يحاسب عليها القانون الدولي، وذلك بحسب القانون الدولي الإنساني واتفاقيات جنيف، ولكن الاحتلال لا يكترث كثيرا بمثل هذه الاتفاقيات والقوانين.
ويبين بأن "معركة" استرداد الجثمان تستنزف العائلات المثقلة بألم فقد ابنها وتحتاج إلى دعم رسمي وشعبي معنوي وميداني؛ وذلك في مقابلة جهاز مخابراتي إسرائيلي كامل يحاول أن يسلبها أبسط حقوقها بدفن شهيدها.
ويبلغ عدد الشهداء المحتجزة جثامينهم 63، منذ عام 2016، أقدمهم الشهيد عبد الحميد أبو سرور من بيت لحم، تتجاهل قوات الاحتلال الحاجة الإنسانية لعائلاتهم وتستخدمهم ورقة ضغط سياسية.
مركز فلسطيني: علاقات السودان بإسرائيل تؤثر سلبا على قضيتنا
تصاعد الخلاف بين الاحتلال وواشنطن بشأن تزايد نفوذ الصين
هيرست: خطة الضم الإسرائيلية تجدد النكبة