ماذا بقي من الثورة الإيرانية؟!
الحقيقة إنه سؤال لا يهم السواد الأعظم في عالمنا العربي، ربما يهم الداخل الإيراني بشكل أكبر، فالسؤال الذي يعنينا: ما هو مستقبل إيران في المنطقة؟ بعد أن تكشف دعمها للثورة المضادة. ولا يقتصر هذا على دعم "الحليف السوري"، ولكن امتد لدعم الجنرال المتقاعد خليفة حفتر في ليبيا، ولا ننسى أيضاً أنها كانت فرحة مستبشرة بالانقلاب العسكري في مصر على أول رئيس مدني منتخب، ليكشف ذلك عن أزمة ألمت بالعقل الاستراتيجي في طهران، فصارت السلطة في سياساتها تتصرف كالذي يتخبطه الشيطان من المس!
ربما فوجئ كثيرون بما قاله مندوب إسرائيل الدائم في مجلس الأمن، من أن إيران خالفت القرارات الدولية بحظر توريد السلاح إلى ليبيا، وأكد على إرسالها أسلحة إلى خليفة حفتر. كما تبين أن من ضمن مليشيات الجنرال الليبي، مليشيات شيعية، من العراق وإيران، لتتحقق أول عملية تقريب حقيقية بين المذاهب، فالسلفية المدخلية تقاتل معه أيضاً!
دعمها للثورة المضادة لا يقتصر على دعم "الحليف السوري"، ولكن امتد لدعم الجنرال المتقاعد خليفة حفتر في ليبيا، ولا ننسى أيضاً أنها كانت فرحة مستبشرة بالانقلاب العسكري في مصر
وعندما نعلم أن هذا الجنرال البائس، هو تلميذ في السنوات الأولى بمدرسة بشار الأسد البارعة في التدمير واستهداف المدنيين، وعندما نعلم كذلك أنه يعبر عن الثورة المضادة التي تعمل على افشال الثورة ليحكم العسكر، وعندما نعلم أن دوائر هذه الثورة تدعمه، ومن السيسي في مصر، إلى محمد بن زايد في الإمارات، مرورا بالحكم السعودي، سنقف على أن الملالي في طهران يعيشون أزمة حقيقية، من أهم تجلياتها ما قاله القائل: يقضى على المرء في أيام محنته.. حتى يرى حسنا ما ليس بالحسن!
مواقف بائسة أنتجها عقل مضطرب، ولا شك في أن ما وقع في المنطقة من صد من الحكم الجديد في بلاد
الربيع العربي لأي حضور إيراني، دفع القوم إلى هذه الرعونة، ولم يدركوا أنهم بذلك، يدمرون ما بقي لهم من رصيد في العالم العربي، كان سببه المهم هو عداء الأنظمة القديمة لإيران تماشياً مع العداء الغربي لها، وكانت طهران تمني نفسها بوجود حقيقي في المنطقة بعد الثورات، لكنها فوجئت بأن الأوضاع ازدادت طرداً لها، لأن بلاد الربيع العربي تخطى الرقاب فيها التيار الديني، الموالي للسعودية، فوجد الايرانيون أنفسهم عاجزين عن إطلاق محطة تلفزيونية في هذه العواصم. وهذا الصد المبالغ فيه أفشل العقل الاستراتيجي الإيراني على التصرف!
الدخول السعودي على الخط:
مواقف بائسة أنتجها عقل مضطرب، ولا شك في أن ما وقع في المنطقة من صد من الحكم الجديد في بلاد الربيع العربي لأي حضور إيراني، دفع القوم إلى هذه الرعونة
لقد بدأ الإيرانيون أول علاقة مع حركة النهضة، لكن السعودية دخلت على الخط لتمد جسور الصلة مع الحركة مقابل قطع هذه العلاقة. فالتيارات الدينية في المنطقة العربية، حتى تلك التي لا يسيطر عليها التفكير السلفي أو التعصب المذهبي، ترى أن علاقتها بالمملكة هي الأصل، ولا تذهب بعيداً إلا مضطرة لذلك.
وبحسب معلوماتي، فإن هناك محاولات للتقارب مع الإخوان بعد الانقلاب العسكري، (بعد أن تبين لهم في طهران أنهم عندما منّوا أنفسهم بعلاقة جيدة مع السيسي كانوا كباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه وما هو ببالغه)، وأن هذه المحاولات كلها باءت بالفشل. فالإخوان لا يريدون علاقة مع طهران تتعرض بسببها مصالح التنظيم في السعودية بالخطر، وإن خسروا الدولة بدعم سعودي للعسكر، فدورهم الآن هو الحفاظ على التنظيم ومصالحه.
الثورة الأم:
في اليوم التالي لتنحي مبارك، قلت في حديث تلفزيوني إنني أتوقع نهاية مرحلة القطيعة بين إيران ومصر، وكان في ذهني ما رواه لي رئيس حزب الأحرار، من أنه طلب من مبارك السماح لرؤساء أحزاب المعارضة بزيارة طهران، فكان رده إن هذا سيغضب الأمريكان، فلما وجد حلا لهذه المعضلة بالقول إن عليه أن يرد عليهم بأنه لا يتدخل في شؤون أحزاب المعارضة، رد مبارك بأنهم (أي الأمريكان) يعرفون البئر وغطاه!
وفي هذا الحديث وصفت الثورة الإيرانية بأنها الثورة الأم، التي هي تحرك شعبي في مواجهة الاستبداد الذي تحميه وترعاه الولايات المتحدة الأمريكية، والتي أسقطت واحداً من أعتى أجهزة الإجرام في تاريخ الطغيان وهو جهاز السافاك!
في هذه اللحظة لم يكن قد طل علينا الحضور السلفي المدعوم سعودياً، والذي أقام الدنيا وأقعدها عند أول محاولة للتقارب مع إيران. وكنت أرى أن السياحة الإيرانية ستوفر رافدا للدعم المالي وسط هذا الحصار المضروب على الحكم، لكن السلفيين وقفوا أمام هذا بقوة، لدرجة أنهم صوروا أن مرور أي سائح شيعي بجوار أي سني من شأنه أن يقنعه بالتشيع، ونظروا للسائحين على أنهم مبشرون بالمذهب، ليقولها وزير السياحة في عهد الرئيس محمد مرسي، إنهم لن يفتحوا باب السياحة للإيرانيين، تقديراً للعلاقة مع الرياض.. هكذا بوضوح!
وفي الحقيقة، إن الأمر لم يكن فقط ابتزازاً سلفياً للحكم الإخواني، فلم يكن لدى النظام أي رغبة أو قابلية في علاقة متميزة مع طهران، ولم يتم النظر إليها بعيداً عن المنطلقات المذهبية. وهناك مشهد انتبهت له في حينه، وإن لم يشغل بال غيري!
لقد عقد الدكتور محمد مرسي أول مؤتمر انتخابي له في ميدان نهضة مصر بالجيزة، القريب من السفارة السعودية، وحرص قبل حضوره للمؤتمر أن يمر على السفير السعودي في السفارة، وهو أمر أفزعني حقاً، لأنني كنت متابعاً لعلاقة التبعية التي ربطت النظام المصري بالنظام السعودي في عهد مبارك، وقد بدا لي اللقاء امتداداً لوفود المعتذرين التي ذهبت للسفارة والرياض مقصرين ومحلقين!
بعد الثورة، تم التنكيل بطبيب مصري يعمل في السعودية، وهنا تحرك شباب الثورة ليرسلوا رسالة تحذير للمملكة بأن الأوضاع تغيرت، وأن ما كان مسموحا به في عهد مبارك لن يكون مسموحاً به الآن، وحاصروا السفارة وهتفوا ضد المملكة، فاندفعت القوى التقليدية للاعتذار بوفود، فحتى نادي القضاة ذهب للسفارة معتذراً، وشكلت الأحزاب القديمة ومعها التيار الديني وفدا كبيرا ذهب للمملكة للاعتذار عن هذا الحصار وهذه الهتافات. لقد باعوا فعلا ثوريا محترما في سفر قاصد، وعرض قريب!
بفوز الدكتور محمد مرسي، حاول أهل الحكم في طهران فتح علاقة معه، لكنهم قوبلوا بالصد، فلم يتمكنوا ولو من إطلاق قناة تلفزيونية في مصر
الدعم الإيراني:
وقد دعم الإيرانيون، عن طريق جماعتهم في لبنان، مرشحاً بعينه، كان آخر من أعلن خوضه الانتخابات، ومع هذا كان صاحب أضخم دعاية، وكان الجميع يتحدث عن مصدر هذه الدعاية الضخمة، لكن بطبيعة الحال لا يملكون دليلاً على ذلك، فالدليل كان في يد جهة أمنية بعينها، قيل إنها رصدت حركة التمويل، وقاسمته فيه وسيطرت عليه بذلك!
وبفوز الدكتور محمد مرسي، حاول أهل الحكم في طهران فتح علاقة معه، لكنهم قوبلوا بالصد، فلم يتمكنوا ولو من إطلاق قناة تلفزيونية في مصر، في حين أن الإمارات كانت لها قنوات قديمة، وأطلقت عبر رجالها قنوات جديدة!
وإذ اشتروا في الأخير قناة قائمة، فقد حرصوا على السرية، وهي التي أوقعتهم في عمليات نصب، بسبب الوسطاء الذين لم يكونوا أهلا لهذه الثقة، وأحدهم استدعى للعمل في منصب قيادي بالقناة وفي مقرها؛ أحد الأشخاص الذين يجهرون بعلاقاتهم الأمنية، وقد شاهدته كثيراً مع وفود من قنوات القوم كانت تأتي لحضور مؤتمرات في القاهرة، وفي عهد ما قبل الثورة قال إنهم كلفوه بتأسيس مكتب لقناة "المنار" في القاهرة!
لقد اضطرهم رفض وزارة الإعلام منحهم الترخيص بإنشاء قناة تلفزيونية، فكان استدعاء التقية ضرورة هنا، فاشتروا قناة قائمة بالفعل، ليكتشفوا أنه تم التلاعب بهم من قبل الوسطاء، فقد اشتروا المحطة التلفزيونية ولم يشتروا الشركة المالكة لها، فكان انتقال للملكية منقوص. وبعد الانقلاب استرد المالك الأصلي القناة بسهولة وبتواطؤ مع الموظف المصري، الذي كان يقول للعاملين في القناة إنها مشروع خاص يخص أحد المصريين. فماذا استفادت إيران بذلك؟!
"حيص بيص":
لأنه لم يكن متوقعاً أن يتركوا حليفهم في دمشق للسقوط، فقد انحازوا له ضد الثورة السورية، لكنهم ليسوا مضطرين لذلك مع حفتر، لكن من الواضح أنه غياب العقل الاستراتيجي الإيراني، لتكون نهايتهم في المنطقة
لقد كان واضحاً أن الإيرانيين فوجئوا باستمرار التضييق عليهم بعد الثورة، فارتبكوا، وأنتجت حالة الارتباك هذه تصرفات أظهرت القوم وكأنهم في "حيص بيص"، لدرجة أنهم انحازوا للانقلاب العسكري في مصر؛ إذ تصوروا أن انقلابا تقف وراءه دوائر إقليمية السعودية في القلب منها، يمكن أن يسمح لهم بتعويض ما فاتهم!
لقد سُمح أمنيا بزيارة طهران، فكانت الوفود لا تتوقف، صحفيين ورجال دين ضد الإخوان، ثم توقف كل هذا كليا واعتقل رجل إيران في مصر، الدكتور أحمد راسم النفيس، عقب واحدة من هذه الزيارات، وكانت الرسالة واضحة، وهي العودة إلى زمن مبارك!
ولأنه لم يكن متوقعاً أن يتركوا حليفهم في دمشق للسقوط، فقد انحازوا له ضد الثورة السورية، لكنهم ليسوا مضطرين لذلك مع حفتر، لكن من الواضح أنه غياب العقل الاستراتيجي الإيراني، لتكون نهايتهم في المنطقة بسياساتهم هذه.
إنه الخروج الحقيقي لإيران من المنطقة.
twitter.com/selimazouz1