في ليلة ربيعية من ليالي أبريل، سنة 1989 وقع اعتداء وحشي على الشابة الأمريكية تريشا ميلي ذات الـ 28 عاما، وهي مصرفية أمريكية بيضاء، كانت تمارس رياضة الجري في الحديقة المركزية الشهيرة باسم: "سنترال بارك" بحي مانهاتن الواقع في مدينة نيويورك.
كان الاعتداء جزءا من حالة شغب عام، تورط فيه مراهقون أمريكيون من أصل أفريقي من ساكني حي هارلم.
شمل الشغب عدة جرائم اعتداء على راكبي دراجات وبعض المارة، غير أن الجريمة الأفظع كانت اغتصاب الشابة ميلي وضربها ضربا مبرحا أدى إلى كسر في جمجتها ودخولها في غيبوبة لمدة 12 يومًا.
ذاع أمر الجريمة الوحشية فرأت الشرطة ضرورة اعتقال الجناة. كانت المشكلة في شيوع الجريمة بين عشرات المراهقين الذين مروا بسنترال بارك.
اعتقلت الشرطة أربعة مراهقين أمريكيين من أصل أفريقي ومراهقا من أصل إسباني، واستجوبتْهم في ظروف غير قانونية لعدم وجود أحد الوالدين مع المراهقين القُصّر.
كما حرمتهم من الطعام والشراب والنوم لمدة تصل إلى 18 ساعة، وأرهبتهم إرهابا شديدا لدفعهم إلى أن يعترف كل منهم على زميله، حيث أوهموا كلا منهم أن ذلك سيبرئ ساحته لأنه سيُعتبر متعاونا مع الشرطة. وهو ما لم يحدث.
بعد محاكمة ذائعة الصيت أدينوا سنة 1990 بارتكاب جرائم: الاعتداء والسرقة والاغتصاب ومحاولة قتل ميلي، وحُكِم عليهم بالسجن لفترات تفاوتت وفق أعمارهم بين 6 سنوات و13 سنة.
بدا ذلك غريبا بسبب عدم تطابق الحمض النووي للسوائل المنوية للمتهمين مع السائل المنوي المأخوذ من الضحية ميلي.
كان ذلك معروفا للمحلفين والقضاة في المحاكمة. وأراد ترامب إثبات بصمته العنصرية فأنفق 85 ألف دولار لنشر إعلانات في صحف نيويورك تدعو لإعدام المراهقين، قبل إدانتهم في المحاكمات.
اقرأ أيضا : أوباما: كيف يمكن الاستفادة من تداعيات مقتل جورج فلويد؟
لكن الأغرب من ذلك كله أن المجرم الحقيقي اعترف بجريمته بعد 12 سنة، بينما كان مسجونا على ذمة قضايا اغتصاب أخرى.
وتطابق حمضه النووي مع السائل المنوي المأخوذ من الضحية، وهنا رفع الشباب الأبرياء قضية تعويض ونالوا تعويضا قيمته 41 مليون دولار قُسمت بينهم حسب سنوات سجنهم، ولم تتم التسوية إلا سنة 2014.
عن تلك القضية المؤلمة أصدرت نتفليكس مسلسل "عندما يروننا" في أربع حلقات. وأطلقته في مثل هذه الأيام؛ 31 مايو 2019. أحدث المسلسل ضجة وكان من أكثر مسلسلات نتفليكس مشاهدةً.
في تقديري، حدث ذلك لأسباب سياسية وفنية، فهو مسلسل درامي وليس وثائقيا. قد يخطر إلى ذهننا سؤال عن اختيار القالب الدرامي مع أن هذه القضايا يغلب تناولها في قالب المسلسل الوثائقي.
أتصور أن صنّاع المسلسل رأوا أهمية الاستفادة من الطبيعة الدرامية الكامنة في تلك القضية، ذات الحمولة الانفعالية الهائلة.
شروط الصراع متوفرة بقوة، واشتباكها مع السياسة آنيٌّ مستمر حتى اليوم. كيف تتعامل الشرطة الأمريكية مع القضايا التي تخص السود؟ لقد قضى كوري وايز أكبر المراهقين سنا 13 سنة في السجن، ولأنه بدأ سجنه في عمر 16 سنة، فقد قضى أجمل سنوات شبابه سجينا، مع أنه لم يكن مطلوبا أصلا، بل ذهب إلى قسم الشرطة مع صديقه المتهم دعما وتضامنا، حين استوقفته الشرطة بصحبته. أي دراما تلك؟
بالتأكيد لن تغيب عن ذهننا قضية جورج فلويد، وقتله الوحشي تحت ركبة شرطي أبيض، في حضور زملائه الذين رفضوا تحذيرات المارة بأن فلويد سيموت، كما يُظهِر مقطع الفيديو.
ليست المقاربة السياسية مقصدنا هنا، لكن الأمر مرتبط بالقضية العامة: كيف تنظر الشرطة إلى المواطن الأمريكي الأسود؟
في قضية سنترال بارك، سارع مفتشو الشرطة إلى اعتقال المتهمين، ومارسوا جميع الضغوط لانتزاع اعترافات وهمية منهم.
كانت الضحية شابة مصرفية شقراء، وظلت المفتشة ليندا فريستين، رئيسة قسم الجرائم الجنسية، تردد أمام كل من يواجهها بمخالفاتها في إجراءات التحقيق، بأننا جميعا مسؤولون أمام هذه الشابة الضحية.
لقد كانت قريبة من الموت، يجب ألا نخونها، يجب ألا نترك المعتدين عليها يفلتون بجريمتهم.. ظلت المفتشة تردد ذلك، دون أن يواجهها أحد من زملائها بأن إنصاف الضحية لا معنى له إلا بالقبض على الجناة الحقيقيين، بل إن إهدار حقها يصبح مضاعفا إذا حوكم أبرياء وتُرِك المجرم الحقيقي طليقا.
أظهر السيناريو المُحكم كيف تفكّر المفتشة البيضاء. إنها ترى السود كتلة بشرية واحدة، كلما أجرم جزء منها، جازت معاقبة أي جزء آخر من تلك الكتلة الكبيرة.
لا أفرادَ هنا، لا استقلال لأحد. مجرد قطيع كبير يمكن اختيار أي فرد فيه واقتياده لسكينة الذبح. تلك هي العنصرية في أقبح صورها.
بالطبع يحق لنا استدعاء المسلسل إزاء ما جرى مع المسكين فلويد؛ قُتِل مواطن أعزل، لم يكن يقاوم الشرطي ولا يحمل سلاحا.
كان الشرطي شوفان يعلم أن الرجل في خطر، فاستغاثة فلويد بدت واضحة مسموعة في الفيديو وهو يرجو الضابط رفع ركبته مرددا بأنه عاجز عن التنفس.
ومع ذيوع مقطع الفيديو على وسائل التواصل الاجتماعي، اكتفت الشرطة بفصل أفرادها الأربعة، شوفان القاتل وزملائه الذين منعوا الناس من الاقتراب. في حالة ميلي، اخترعت الشرطة وسائل للضغط على أطفال قصّر لدفعهم للاعتراف زورا ضد بعضهم بعض.
أما شوفان فقد ظل طليقا حتى هاج المتظاهرون وأحرقوا قسم الشرطة في مينيابوليس، ودمروا بعض المباني ونهبوها.
مثل أية سلطة عنصرية، لا تستوعب الأمور إلا متأخرا. يتسق مع ذلك موقف ترامب الشائن، بعد اعتراف المجرم الحقيقي وإثبات جريمته عبر حمضه النووي بشكل قاطع.
كان ممكنا أن يعتذر ترامب، أو يوضح أنه أخطأ لأنه استند إلى محاضر الشرطة والمحكمة، لكنه حين سئل بوضوح عن موقفه بعد المسلسل، تمسك برأيه السابق، مغالطا بأن هناك رأيين، رأي المسلسل والمتهمين من جهة ورأي الشرطة ومفتشيها الذين يجرّمونهم، كأن المسالة خلاف في وجهات النظر، وليست جريمة مروعة دفع ثمنها شباب أبرياء.
ومع أن شخصيات المراهقين تبدو متشابهة للوهلة الأولى، فهم مراهقون أمريكيون من أصل أفريقي، متقاربو الأعمار والملامح الاجتماعية، لكنّ كاتب السيناريو استنطق خلفياتهم المتباينة، مُشركا الآباء والأمهات، مبرزا كيف تفاعلت كل أسرة وكل مراهق متهم مع هذه الكارثة.
بفضل مهارة كاتب السيناريو، لم نشعر أننا أمام نسخة واحدة لأربعة متهمين سود، بل كان لكل منهم انفعالاته وإحساسه الخاص بالمأساة، ومحاولته مواجهتها أو التأقلم معها.
كما وُفِّقَت المخرجة آفا دوفيرناي في اختيار زوايا تصوير معبرة عن قسوة الأحداث وكابوسيّتها. تلاعبت أيضا بالظلال وزوايا الإضاءة حتى إن مشاهد الحديقة بدت موحية بالغموض المرعب المرتبط بالجريمة.
فإذا تصفّحنا صور حديقة سنترال بارك على غوغل، وهي إحدى أشهر حدائق العالم وأروعها، فسوف نشعر أنها مكان مريح ورائع، وليست مسرحَ جريمةٍ مظلما، موحشا تزيده ظلال الشجر هلعا، كما قدمته المخرجة.
يلفت النظر أيضا عناية فريق الفيلم بأصغر التفاصيل. فالشوارع والسيارات والمحلات والبيوت وأزياء المارة كلها تعيدنا إلى أجواء أواخر الثمانينيات، بل أكثر من ذلك تبدو مشاهد المسلسل كأنها مشاهد مسلسل صُوِّر في ذلك الزمن، بأنواع الكاميرات المستخدمة وقتها.
من اللافت أيضا أن صناع المسلسل لم يكتفوا بفظاعة تجربة السجن التي جاء إيقاعها سريعا من حيث توالي لقطاتها وأحداثها العنيفة، بل عالج المسلسل أزمات ما بعد خروج الشباب من السجن موصومين بجرائم جنسية، وما فرضه ذلك من آلام نفسية ومعيشية مضنية. لم يكن المجرم الحقيقي قد اعترف وقتها.
للمفاجأة، قد لا يبدو هذا الجزء من المسلسل مهما للوهلة الأولى، لأنه يعالج خروجهم للحرية، لكنه، في رأيي، سبب مهم لنجاح المسلسل وتعاطف المشاهدين مع قضيته.
ظلم مريرٌ أن يُسجَن مراهق بتهم لم يقترفها، ثم يظل يناضل بعد خروجه ليثبت لأرباب عمله المحتملين أنه ليس خطرا على الأطفال الموجودين في نطاق العمل ونحو ذلك، ليثبت للجميع أنه إنسان مثلهم.
لذلك، فقد أحدث المسلسل تأثيرا مدويا.
بعض هذا التأثير كان ملهما حقا. فقد دفعت المفتشة ليندا فريستين ثمن جريمتها في الإشراف على تلفيق التهم، بأن دشّن القراء هاشتاغا لمقاطعة رواياتها، فقد تركت العمل في الشرطة وأصبحت كاتبة روايات عن الجرائم، وكانت كتبها تحقق أعلى المبيعات أحيانا. بعد المسلسل اضطر ناشرها إلى فسخ تعاقده معها.
أيضا احتج طلاب كلية الحقوق بجامعة كولومبيا حتى اضطروا إليزابيث ليدرر الأستاذة بالكلية إلى الاستقالة من منصبها، لأنها كانت المدعية العامة في قضية سنترال بارك.
يبدو غريبا أن فريستين وليدرر مضتا تستمتعان بالنجاح المهني والشهرة الأدبية بعد كل ما اقترفتاه من تلفيق.
هكذا هي طبيعة البشر والسياسة. لا يكفون عن ظلم الأضعف منهم حتى يثور الضحايا ويدافعوا عن أنفسهم، بدءا من المراهقين الخمسة، ومرورا بمئات السود الذين قتلتهم الشرطة الأمريكية دون محاكمة القتلة أحيانا كثيرة، وانتهاء بفلويد الذي قد يكون نقطة تحول، لا تعود الأوضاع بعده كما كانت قبله.