تتزايد
المخاوف من تجميد الصراع في ليبيا عند الأوضاع الحالية، أي تبقى كلا من قوات
الوفاق، وقوات حفتر في النقاط التي تسيطر عليها، ربما مع بعض التعديلات الطفيفة،
لكن يبقى الشرق عموما تحت هيمنة حفتر ويبقى الغرب تحت إدارة الوفاق، ويبقى الجنوب
متأرجحا بين هذا الطرف أو ذاك.
السبب
الرئيس لهذه المخاوف هو مصالح الدول الكبرى التي تشارك فعليا في العمليات العسكرية،
أو التي تدعم طرفي الصراع بأي طريقة أخرى.
قد تكون
دوافع بعض الأطراف الدولية حسنة، أو راغبة بحق في دعم الاستقرار والتنمية في
ليبيا، لكن هذا لا ينسحب بالتأكيد على باقي المتدخلين، الذين يسعى أغلبهم لتحقيق
مصالح ذاتية من خلال تعظيم مشاركتهم العسكرية.
فروسيا
مثلا تريد موطئ قدم في شواطئ المتوسط، تستعيد من خلاله نفوذها في شمال أفريقيا، بل
في عموم القارة السمراء. وهي تريد أن يكون لها مكانة مساوية أو حتى متفوقة على
الدور الأوروبي والأمريكي (حلف الناتو عموما) في ليبيا وفي أفريقيا. وهي تركز
قواتها الآن في قاعدة الجفرة بهدف تحويلها إلى قاعدة روسية كاملة.
ويبدو أن
بلدية الجفرة انتبهت لهذه الحقيقة المرة، فأصدرت بيانا طالبت فيه كل القوى
العسكرية الموجودة في قاعدة الجفرة (بما فيها الروسية بطبيعة الحال) بمغادرة
القاعدة، كما أعلنت حيادها في المعارك الجارية حاليا في ليبيا، وهو تحول مشكوك في
صدقيته. إذ أنه جاء في ظل تواصل ضغوط قوات الوفاق وتأكيداتها على عزمها تحرير
القاعدة وإعادتها للحكومة الشرعية، وهو قابل للتغيير مع تغير المعادلات العسكرية
على الأرض.
لكن على
كل حال، فإن دعوة بلدية المدينة لكل القوات العسكرية بالجلاء طوعا عن القاعدة وفي
أقرب وقت؛ يسهّل مهمة حكومة الوفاق في فرض سيطرتها على القاعدة، ويمنحها قوة دفع
جديدة لتحقيق هدفها، وإن كان الأمر سيحتاج إلى تفاهمات سياسية مع الروس أيضا. وهو
أمر يبدو معقدا لأن هذه القاعدة بالذات هي التي بنت روسيا آمالها عليها، ونقلت
إليها عتادها العسكري وقوات فاجنر التابعة لها، وزودتها بسرب طائرات مؤخرا. وليس
من المعروف هل ستتمكن حكومة الوفاق وحليفتها تركيا في إجبار الروس على ترك
القاعدة، وتعويضهم بميزات أخرى وفق اتفاقيات سياسية واقتصادية طويلة المدى.
تركيا
وجدت في تعاونها مع حكومة الوفاق، وهي الحكومة المعترف بها دوليا فرصة لتبادل
المنافع. ففي الوقت الذي وفرت فيه الدعم العسكري لها، وهو ما مكنها من استرداد مدن
المنطقة الغربية التي كانت تحتلها قوات حفتر، فإنها (أي تركيا) ضمنت لنفسها مكان
استراتيجيا في جنوب المتوسط، يقوي مركزها تجاه أوروبا وحلف الناتو، كما ضمنت مصدر
إمداد آمن للطاقة.
أما نظام
السيسي فهو لا يزال يعيش في وهم الهيمنة على الحكم في ليبيا من خلال تنصيب مقربين
منه. وكانت خطته تعتمد بشكل أساسي على الجنرال حفتر، ولكن مع الهزائم المتتالية له
فإنه بدأ في التعامل بالخطة البديلة، وهي عقيلة صالح الذي استقبله مع حفتر في
القاهرة، وأعلن بحضورهما مبادرة سياسية ترتكز على مبادرة عقيلة صالح، وبدأ الترويج
السياسي لعقيلة كخليفة مناسب.
الجديد في
المشهد الليبي وما سيزيده تعقيدا هو مطالبة معسكر حفتر بدعم إسرائيلي. وقد وردت
هذه المطالبة بشكل علني ومباشر على لسان عبد السلام البدري، والذي يحمل صفة نائب
رئيس وزراء لحكومة عبد الله الثني التابعة لحفتر. وقد تناثرت من قبل الكثير من
الأنباء والتكهنات عن دعم عسكري فني ومعلوماتي إسرائيلي لقوات حفتر، من خلال وساطة
إماراتية.
وبعد أن
تجرأت الإمارات بخطوات مباشرة للتطبيع مع الكيان الصهيوني، فقد وجد حفتر الفرصة
سانحة للتعامل مع الكفيل الأكبر مباشرة دون وسيط، أملا أن يتمكن هذا الكفيل من إنقاذه.
لكن الدخول الإسرائيلي إذا تم فإنه سيزيد المشهد الليبي تعقيدا، وسيعيد خلط
الأوراق.
خلال
الأيام الماضية ومع تقدم قوات الوفاق نحو مدينة سرت، تصاعدت وتيرة التحركات
الدبلوماسية والتي ترفع ظاهريا شعارات السلام، ولكن الكثير منها يستهدف عرقلة تقدم
قوات الوفاق شرقا باتجاه الهلال النفطي الذي يسيل له لعاب كل الدول الكبرى.
فالروس
والفرنسيون أصبحوا الآن أكثر اقتناعا بالحل السياسي بعد تعثر الحل العسكري، وكذا
نظام السيسي. والمكون السياسي في الشرق الليبي (وبدفع روسي) بادر بتقديم مبادرته
للتسوية السياسية، والجزائر التي حاولت على خجل من قبل أن تستضيف حوارا ليبيا-
ليبيا، جددت قبل يومين وعلى لسان رئيسها اهتمامها بالوساطة، ولكنها قرنتها بتحرك
لدول الجوار (مصر وتونس والجزائر). وقد استبعدت من تحركها المملكة المغربية بدعوى
أنها ليست من دول الجوار، رغم أن المغرب هو صاحب التسوية السياسية الوحيدة التي
صمدت حتى الآن، وهي اتفاق الصخيرات أواخر كانون الأول/ ديسمبر 2015. واستقبلت
الجزائر رئيس البرلمان الليبي عقيلة صالح، وعلى الأرجح ستلتقي وفودا ليبية أخرى
لأنها تهتم بإشراك زعماء القبائل في المفاوضات.
ونشطت
الدبلوماسية الألمانية لمحاولة عقد جولة ثانية من المفاوضات الليبية في برلين
تستكمل جولة يناير الماضي، كما تسعى كل من إيطاليا وفرنسا من ناحيتها. ودخلت
الولايات المتحدة على الخط بعد تأكدها من تعاظم الدور الروسي ووصول طائرات روسية
إلى ليبيا، أي أن الهدف بالنسبة لواشنطن هو مواجهة النفوذ الروسي وليس إنقاذ ليبيا
أو الليبيين. وهذا ليس موقف واشنطن وحدها، بل موقف غالبية الوسطاء الأوروبيين
الذين يتحركون الآن.
واليوم
الأحد كان يفترض أن تستضيف أنقرة وزيري الخارجية والدفاع الروسيين (تأجلت الزيارة)
للتباحث حول الشأن الليبي ضمن ملفات أخرى، وعلى الأرجح لن تتم أي تسوية في ليبيا
إلا من خلال اللاعبين الرئيسيين على الأرض، وهما روسيا وتركيا، أو على الأقل لن
تمر أي تسوية دون رضاهما.
الخوف
الكبير الآن أن تحركات القوى الكبرى في ليبيا سواء كانت عسكرية أو سياسية ستزيد
الوضع تعقيدا، أو بمعنى آخر تدخل الأزمة الليبية (عند حدودها الحالية) في ثلاجة
السياسة حتى تتفاهم هذه القوى الكبرى على دور ونصيب كل منها، وهذا الأمر يقتضي
يقظة عالية من الليبيين، وخاصة حكومة الوفاق لأخذ زمام المبادرة وإنقاذ وطنهم من هؤلاء
الأكلة الذين يتداعون على قصعتهم.
twitter.com/kotbelaraby