الحوَل
السياسي الذي يعانيه عبد الفتاح السيسي يجعله لا يرى الخطر الذي يشعر به المصريون
جميعا، مؤيدين ومعارضين، والقادم من الجنوب حيث أزمة سد النهضة مع إثيوبيا، ولكنه
يرى الخطر الرئيسي في الغرب، حيث تتعرض مليشيات حليفه الجنرال خليفة حفتر لهزائم
متتالية، ما دفع السيسي للتلويح بتدخل عسكري ضد قوات الوفاق، مدعيا أن هذا العمل
توفرت له الآن الشرعية التامة.
خوّار
تجاه إثيوبيا جبّار تجاه ليبيا، هكذا هو حال السيسي الآن، ففي الوقت الذي يتحدث
بلطف عن أزمة سد النهضة التي تشغل بال المصريين، وتجعلهم في حالة رعب على حاضرهم
ومستقبلهم، فإنه يتحدث بعصبية عن الوضع في ليبيا (وكأن سد النهضة انتقل إلى ليبيا)، بل ويحرك قواته بالفعل قرب الحدود الليبية تمهيدا لعمل
عسكري، وفي الوقت الذي يستجدي السلام والحوار مع إثيوبيا، ويقبل دعوات التفاوض
المستمرة التي تمنح الإثيوبيين مزيدا من الوقت لإكمال عمليات البناء والملء، فإنه
يسارع إلى الحل العسكري في ليبيا، رغم أن الأوضاع في ليبيا لا تمثل خطرا محدقا
بالأمن القومي المصري.
فالقتال
لا يزال في الغرب الليبي لم يصل حتى إلى المنطقة الوسطى (منطقة الهلال النفطي)، أي
أن القتال على بعد مئات الأميال من حدودنا الغربية، وليس متوقعا على الإطلاق أن تغامر
قوات الوفاق بالتوغل شرقا نحو بنغازي وطبرق مثلا، اللتين تظلان بعيدتين عن الحدود
المصرية.
الطريف أن
السيسي في كلمته الأخيرة أمام قادة الجيش في المنطقة الغربية حرّض القبائل الليبية
على التحرك، والنزول للشوارع لتفويضه ودعوته للتدخل، ووعدهم بتدريب وتسليح شبابهم
(أي أنه يريد صناعة صحوات قبلية في ليبيا بعد تعثر كتائب حفتر)، ورفع شعار
"سرت والجفرة خط أحمر"، وهو ليس الصاحب الأصلي أو أول من أطلق هذا
الشعار، بل إن الروس هم الذين أوصلوا هذه الرسالة قبل عدة أيام لحكومة الوفاق عن
طريق أحمد معيتيق، نائب رئيس الحكومة، ولم يعلنوها حتى في وسائل الإعلام. وهم لا
يعتبرونها خطا أحمر بشكل دائم، لكنه خط أحمر حتى تكتمل التفاهمات السياسية مع الأتراك
والأوروبيين والأمريكان حول مستقبل الأوضاع في ليبيا، وحين تنتهي الطبخة السياسية
سيتم تسليم سرت لحكومة الوفاق بدون قتال، وساعتها سيكون السيسي في حرج سياسي جديد،
لأنه لن يستطيع تنفيذ تهديداته بعد اتفاق الكبار.
كلما تضيق
الدائرة على السيسي في الجنوب فإنه يسعى لسحب الغضب الشعبي تجاه الغرب ليواري فشله
في القضية الأهم، وهي أزمة المياه، التي لا تشغل بال الجيل الحالي من المصريين بل
تطال الأجيال المقبلة. وهي الأزمة التي تسبب فيها السيسي شخصيا بتوقيعه على اتفاق
إعلان المبادئ في آذار/ مارس 2015، والذي وافق بموجبه على بناء السد دون الحصول
على أية ضمانات لحفظ حقوق مصر في المياه. كما أنه بموجب هذا الإعلان فتح باب مغلقا
أمام إثيوبيا لتمويل عمليات البناء، حيث كانت الهيئات الدولية المقرضة ترفض
المشاركة في بناء السد التزاما بقواعد مهنية تقضي بعدم المشاركة في أي مشروعات
دولية محل نزاع بين الدول. وقد كان السد محل نزاع بين إثيوبيا ومصر حتى رفع السيسي
هذا النزاع بتوقيعه المشئوم.
محاولة
التعبئة والتحشيد الشعبي لمعركة ليست من أولويات الشعب المصري في ليبيا؛ يستهدف من
خلالها السيسي أيضا صرف الأنظار وامتصاص الغضب الشعبي تجاه أزمات أخرى فشل النظام
في إدارتها، مثل أزمة كورونا، حيث حاول النظام في البداية التعتيم عليها ولكن
منابر المعارضة والسوشيال ميديا كشفت الحقائق للشعب، وكشفت ضعف الأداء الحكومي في
مواجهة الأزمة.
ويريد
النظام صرف الأنظار عن أزمة الغلاء الفاحش التي تزداد صعوبة بعد رفع أسعار
الكهرباء مؤخرا. والمعروف أن رفع الكهرباء يجر خلفه العديد من الأسعار الأخرى للسلع
والخدمات.
وإلى جانب
الغلاء، فإن السيسي يريد صرف الأنظار عن القروض الخارجية الضخمة التي تجاوزت
الـ125 مليار دولار، والتي تطوق أعناق أجيال وراء أجيال من المصريين، وقد كان نذر
أقل منها سببا في احتلال مصر في القرن التاسع عشر.
كما أن
السيسي يستهدف صرف الأنظار عن فشله في تطهير سيناء من عصابات داعش، رغم أنه وعد بفعل ذلك خلال ثلاثة أشهر بدأت في شباط/ فبراير 2018 ولا تزال مستمرة حتى اليوم.
الأهم مما
سبق هو أن السيسي سبق أن وعد قبل عامين بأن مصر ستصبح في وضع مختلف في 30 حزيران/ يونيو
2020. وها نحن لا يفصلنا سوى بضعة أيام عن هذا الموعد، بينما مصر أصبحت غارقة في
مشاكل داخلية وخارجية لم تشهد لها من قبل مثيلا، فكان من الطبيعي أن يصطنع السيسي
حدثا كبيرا يصرف الأنظار عن هذا الوعد وغيره من الوعود والمشاكل.
وقد وجد
السيسي بغيته في التحشيد على الحدود الليبية، ليرفع شعار العسكر الأثير الذي
يختبئون خلفه عند أزماتهم "لا صوت يعلو على صوت المعركة". ولذلك لم يكن
غريبا أن يصدر المجلس الأعلى للإعلام تعليمات مشددة بعدم نشر أي اخبار عن كورونا
أو الأزمة الليبية أو أزمة سد النهضة أو ما يحدث في سيناء، إلا من خلال البيانات
الرسمية فقط.
الغريب
أيضا ان السيسي ادعى أن التدخل العسكري في ليبيا توفرت له الشرعية الدولية، مستندا
إلى أن ميثاق الأمم المتحدة يمنح مصر حق الدفاع أرضها وأمنها، وسيادتها، رغم أن
القتال في ليبيا يبعد مئات الأميال عن الحدود المصرية، وهو لن يتجاوز سرت والجفرة
شرقا، حيث ستبدأ التسوية السياسية. كما أن السيسي يستند في شرعية تدخله على برلمان
طبرق بدعوى أنه برلمان شرعي، رغم أن غالبية النواب هجروه بالفعل، متجاهلا حكومة
الوفاق وهي الحكومة الشرعية التي يعترف بها العالم كله، ولم يستطع نظام السيسي
نفسه سحب الاعتراف بهذه الحكومة ومنحه لحليفه خليفة حفتر.
والأهم من
كل ذلك أن شرعية التدخل العسكري متوفرة بدرجة أكبر للدفاع عن حقوق مصر في مياه
النيل المضمونة باتفاقات دولية، ومع ذلك فإن اللغة الناعمة للسيسي هي التي تظهر
عند الحديث عن إثيوبيا، ويكون اللجوء إلى مجلس الأمن هو أقصى ما يستطيع النظام
فعله، مع العلم أن مجلس الأمن لن يفعل شيئا سوى دعوة الطرفين للعودة إلى طاولة
المفاوضات، ولن يجرؤ المجلس على اتخاذ أية قرارات أخرى، حيث سيواجه بالفيتو الجاهز
دوما.
التحرك في الشرق الليبي وتقويض مشروع التقسيم
نكسة جديدة لجيش النظام المصري في 5 يونيو