إذا سلَّمنا بأن الهدف المعلن لقانون «قيصر» ليس إسقاط النظام السوري؛ بل الضغط عليه وإجباره على التنازل والخضوع لتسوية سياسية، وفق بيان جنيف عام 2012، وقرار مجلس الأمن رقم 2254، ما يمهد الطريق لتصفية وجود إيران العسكري، وما راكمته من نفوذ في سوريا، وإذا سلمنا أيضا باستمرار وتواتر الغارات الإسرائيلية على مواقع «الحرس الثوري» في سوريا والمليشيا التابعة له، ربطا بمجاهرة غير مسؤول في حكومة تل أبيب بأن قواعد الصراع مع إيران قد تغيرت، وبأن الهدف بات اليوم ليس تحجيم وجودها بل إخراجها نهائيا من سوريا، فمن البديهي أن نسلِّم بوجود مخططات تنفذها طهران، وخطوات تقوم بها لمواجهة هذين المستجدين، وتخفيف تداعياتهما بما يحافظ على وجودها ونفوذها في سوريا.
أولا، مناورات للتخفي وتكتيكات عسكرية، اتخذت
أشكالا متنوعة لتخفيف تأثير الضربات الجوية الإسرائيلية، منها تغيير مراكز تموضع
القوات الإيرانية والميليشيا الملحقة بها، كما البدء في تقليل أعدادها، مع رفع
الكفاءة والفاعلية على الأرض، وجعلها أكثر نوعية ومرونة، الأمر الذي يفسر ما أثير
عن توجه طهران لإعادة كثير من عناصر ميليشياتها غير النخبوية من حيث أتوا، بما في
ذلك تخفيف حضورها العسكري إلى حدود الكوادر المتميزة، وتحصينهم جيدا في القواعد
التي تسيطر عليها في سوريا، وأبرزها في مطار دمشق الدولي، وفي الكسوة بريف دمشق،
وفي جبل عزان بريف حلب الشمالي، ومطاري السين والشعيرات العسكريين، وقاعدة اِزرع
في الجنوب السوري، ومنها سحب قواتها من مناطق حدودية حساسة، تجنبا لأي استفزازات
أو احتكاكات، كتوافقها مع النظام على إعادة نشر جيشه في المثلث الأردني الإسرائيلي
السوري، والمناطق المطلة على الجولان المحتل، لتهدئة الإسرائيلي، وسحب ذريعة
اقتراب قواتها من حدوده، وأيضا انسحابها من بعض مواقعها في محافظة دير الزور،
وتسليمها إلى ميليشيات سورية ترعاها روسيا، كـ«لواء القدس» و«صقور الصحراء»،
تفاديا للاحتكاك مع الأميركيين. ومنها وهو الأهم، توسيع تغلغلها في بنية الجيش
السوري، ورفد بعض مراكز القوى الموالية لها كالمخابرات الجوية والفرقة الرابعة
التي يقودها ماهر الأسد، بعديد من الضباط والكوادر العسكرية المدربة تحت صفة
مستشارين، جنبا إلى جنب مع السعي لتوحيد الجماعات الأهلية المسلحة التي ساهمت في
تشكيلها خلال الصراع السوري، وتحضيرها جديا كي تنضوي في حزب مسلح يتمثل تجربة «حزب
الله» اللبناني.
ثانيا، تشجيع «حزب الله» لإحكام السيطرة على
الوضع اللبناني ومقدراته ومنافذه الحدودية وتسخير سلاحه وسطوته، مرة أولى، لتخفيف
الضغط على الوضع السوري وعلى وجوه النفوذ الإيراني فيه، وللالتفاف على التداعيات
الاقتصادية التي يخلقها «قانون قيصر»، ومرة ثانية، لتهديد المصالح الأميركية وأمن
إسرائيل. وليست لغة الوعيد التي فاض بها خطاب حسن نصر الله الأخير، أو توقيت نشر
فيديو من قبل إعلامه يتضمن أهدافا حيوية عسكرية إسرائيلية توحي بقدرة «حزب الله»
على استهدافها، سوى أحد تجليات هذا التهديد، وفي المقابل لن يضيع حكام طهران
فرصتهم المعتادة في تنشيط فاعلية تنظيم «داعش» الذي تواترت عملياته مؤخرا،
واستخدامه كفزاعة لترهيب الغرب وإشغاله. ولم يعد سرا التواطؤ المزمن بين الجماعات
الإسلاموية المتطرفة والحكم في طهران، وقدرة الأخير على التأثير في قرارات هذه
الجماعات، ودفعها لممارسات إرهابية مستفزة في مواجهة مجتمعات الغرب ومصالحه.
ثالثا، تركيز مزيد من الجهود لتعزيز تغلغلها
وترسيخ وجودها اجتماعيا واقتصاديا في سوريا، متوسلة – بداية - التشيع المذهبي، ثم
التعبئة الأيديولوجية تحت عنوان مواجهة إسرائيل. وبالفعل نجحت إيران في زيادة حجم
الكتلة الشيعية في دمشق والساحل السوري، كما أصبحت لها جماعات محلية تواليها، من
مختلف الأديان والمذاهب، مرورا بتنشيط دور وكلائها في مستوى التعليم والخدمات
الاجتماعية، والأهم لتوفير معونات للمحتاجين لاستمالتهم عبر أكثر من 40 جمعية
«مدنية وإنسانية» صار حضورها يتنامى اليوم مع تفاقم العوز المعيشي والضائقة
الاقتصادية، انتهاء بالتوسع في تغيير الطبيعة الديموغرافية لمزيد من المناطق التي
كان يقطنها السوريون السنة، إنْ على أطراف الحدود وإنْ حول المراقد الدينية
الشيعية، يحدوها دور خفي يلعبه مقاولون إيرانيون قاموا بشراء الأراضي وبناء
العقارات، وتحويلها إلى مناطق تسكنها ميليشيات شيعية، بعد تسهيل حصول كثير من
عناصرها على الجنسية السورية.
رابعا، حرص طهران على تجنب أي مواجهة محتملة
مع موسكو التي تتجه نحو التفرد بإدارة الملف السوري، وميلها لمعالجة وجوه الخلاف،
والتنافس معها للسيطرة على مؤسسات الجيش والأمن وعلى الموارد والمرافق الاقتصادية
الحيوية، بتقديم بعض التنازلات المؤقتة، مطمئنة إلى أن العلاقة بينهما لن تصل إلى
مستوى القطيعة، في ظل عراقة تعاونهما، وإدراكها لحاجة موسكو لها كورقة ضغط للتقارب
مع الأطراف الغربية والإسرائيلية والعربية.
والأسوأ أن طهران سارعت اليوم لتسويغ تقاسم النفوذ الإقليمي مع حكومة أنقرة. وليس غريبا ما يثار عن وجود صفقة بينهما لتبادل المنافع؛ ليس في سوريا فقط؛ بل في العراق وليبيا واليمن، بدليل وحدة إيقاع الطرفين في توجيه ضربات جوية ضد قواعد حزب العمال الكردستاني في شمال العراق، ثم الغطاء الذي توفره طهران للتوغل التركي في الصراع الليبي، تناغما مع دعم أنقرة لدورها في اليمن، وأليس للطرفين جذر أيديولوجي إسلاموي مشترك، ويدركان أن فشل نموذجه وهزيمته عند أحدهما سينعكس ضررا وتراجعا عند الآخر؟!
صحيح أنه لا يوجد في الدوائر الإيرانية من
يتحدث عن الاستجابة للضغط الذي يمارس من أجل الخروج من سوريا؛ بل على العكس ثمة
إشارات وتصريحات توحي بالتشدد؛ خصوصا أن طهران تدرك جيدا أن إخراجها من سوريا قد
يضع ما راكمته من نفوذ إقليمي في مهب الريح، وصحيح أن ما تقوم به إسرائيل بضرباتها
الجوية وأميركا بعقوباتها الاقتصادية قد يعطي ثمارا لمحاصرة النفوذ الإقليمي
الإيراني وتحجيمه في سوريا؛ لكن الصحيح أيضا أن هذه الثمار غير كافية، ولن تأتي
أُكلها إن لم تترافق مع فرض تغيير سياسي يضمن للسوريين حقوقهم وفق قرارات الشرعية
الدولية، ففي مثل ذلك المناخ لن تعود لطهران فرصة للبقاء في سوريا، وستُكره على
الرحيل من غير رجعة.
(الشرق الأوسط اللندنية)