مقالات مختارة

لا للحرب: نحو موقف مغايرٍ في زمن الجنون

1300x600

«أهم أهدافنا، هو أن نتفادى شر أسلحتنا» كانت هذه كلمات سالم جحا أحد أهم (إن لم يكن أهم ) قادة الثوار في مصراتة لإحدى وكالات الأنباء.


اعترضتني هذه العبارة فاستوقفتني في كتاب «الشواطئ المحترقة» عن الصراع الليبي لفريديريك ويري، وهو باحثٌ أمريكي وثيق الصلة بشأن البلد المأزوم، كونه خدم بالفعل في البعثة الدبلوماسية الأمريكية هناك، ما مكنه من محاورة العديد من وجوهها الأبرز، ومن يمكن أن نصطلح على تسميتهم بنجومها الأشهر، وأتاح له فرصةً للتجول في مدنها وجبالها (التي يبدو أنه يعرفها جيدا من قبل) مقتربا من واقعها الجديد، ملاحظا المتغيرات في المزاج والولاءات، وتوازنات القوة الفعلية على الأرض، وراصدا محاورها الجديدة النابتة من الواقع، مستندة إلى قوة السلاح والعتاد والرجال، والمتحالفة بدورها، مدعومة من القوى الخارجية ومحاورها، وعلى رأسها كما بات معروفا جيدا، محورا السعودية/الإمارات/ مصر، في قبالة قطر/تركيا.


يرسم الباحث الأمريكي صورة معقدة للغاية، تتفاعل فيها الولاءات القبلية مع الثارات القديمة مع الانحيازات الأيديولوجية، المحلي فيها في صورة إيمانٍ سنيّ وسطي وصوفي لطيفين، وأقل حدة ودموية بصفةٍ عامة في مواجهة تياراتٍ إسلاميةٍ أخرى، أحدث وفودا على الساحة الليبية نسبيا، تتوزع على السلفية بمدارسها، ومن ثَم تباين موقفها السياسي، وانخراطها في العمل المسلح، بدءا بتلك القابلة للإمام المتغلب المنسحقة أمامه تماما، ونهاية بتلك شديدة العنف والدموية، التي تهدف إلى إعادة إنتاج مجتمعٍ مثاليٍ مفترض (أسطوري) شديد التزمت، منغلق الآفاق والاحتمالات.


كمنت المعضلة الليبية في انعدام أي حضور ذي شأن لقواتٍ مسلحة تتبع الدولة، بينما تقاسمت المليشات السلاح والنفوذ، في غيبة أي نازع مقنع للتخلي عنها، للتوضيح نحن لا نتحدث هنا عن منازعة هذه المليشيات لاحتكار الدولة للسلاح، وإنما عن غياب يكاد أن يكون تاما للدولة، جراء سياسات القذافي الخائف من الانقلابات، ما دفعه إلى الاحتفاظ ببعض القوات (الهزيلة في الحساب الختامي) تحت إمرة ابنه خميس، على خلفية قوات مسلحة خربة ومترهلة وصدئة.


كأي فراغ في بلد ثري استدعى الوضع الليبي تدخلاتٍ عدة من دول الجوار، وذوي المصالح، وفي عدادهم مصر الجار التاريخي الأكبر، ولا أبالغ إذ أقول الأهم.


مبكرا راهن السيسي على حفتر، ليس لكونه خيار الإمارات والمملكة السعودية فحسب، (وإن كان لذلك ثقل كبير) ولكنني أتصور أن تكوينه الذهني والنفسي يحدوان به للتحالف مع جنرال مثله، يتصوره قادرا على لجم الثورة والتسيب والفوضى، على إعادة عقارب الساعة للوراء، وفرض سيطرة دولةٍ مركزيةٍ قوية على البلد، معتمدا على قوات مسلحة، ومنظومة أمنٍ تعد على الناس أنفاسها، وبالطبع لا يغيب عنا تماثلهما ومشاركتهما العداء للإخوان المسلمين تحديدا، لن أقول الإسلام السياسي فلحفتر تحالفاته مع قوى إسلاميةٍ أخرى. لكن السيسي بتحالفه ذاك، أثبت مرة أخرى قصر نظره ولم يضف إلا خيارا خاطئا آخر ومتسرعا لسجله الحافل (تفريعة قناة السويس، تيران وصنافير، إلخ). كان باستطاعته أن يكون على مسافةٍ واحدة بين القوى المختلفة على الأقل، أو الحفاظ على علاقاتٍ مع أطراف الصراع الأكبر، لكنه اتساقا مع ذاته، وما نعلمه عنه من امتلائه بها وقناعاته الراسخة، ونظامه الذي يتخذ هو فيه القرار، بغض النظر عن آراء الخبراء، ثم كعادته أيضا حاول تصليح المسار متأخرا باللجوء إلى الضغط، ومحاولة إيجاد حلٍ سياسي يستند إلى ظهير شعبي.


لكن الشاهد أن ذلك التأخير فتح مساحة استغلها أردوغان جيدا، على الأقل حتى الآن، فلم يكتف بغرس قدم تركيا في ليبيا، بل تخطى ذلك لإحراز تقدمٍ مذهلٍ على الأرض قلب الموازين وعزز موقفه داخليا في تركيا وخارجيا. ثم أعقب ذلك تصريح السيسي الشهير بخطٍ أحمر في سرت والجفرة، ولم يلبث وعدّله ليصبح خط سلام.


الآن وفي هذا المنعطف، بت أشعر بقلقٍ عميق مما أراه أمامي في الوعي الجماعي والمزاج العام للناس في مصر، خاصةً في ما يخص الشأن الليبي، فالشاهد أن ثمة شحنا معنويا وتعبئة تستنفر الناس، وتضعهم في حالة حرب. بغض النظر عن تقييمي السلبي للسيسي (الذي لم أخفه قط)، فلا بد أن أعترف بأنه لم يتهور حتى الآن حين تعلق الأمر بإرسال قواتٍ ضخمة خارج حدود مصر، وكان يزوغ من أي التزامٍ بمجرد الكلام، إذ هو يحدس على الأغلب بأن أي إهانةٍ عسكرية قد تشكل حكما بنهايته. إلا أن المعضلة تكمن في وضعه الانقلابي، أي غير المتزن في الأساس، والحاجة الشعبية الماسة التي استدعته، أو لنقل التي ادعى تلبيتها. لقد أفاق الناس في مصر عقب يناير على كمٍ مذهل من الفساد والسرقات، وعلى جيش متهالكٍ متردي العتاد، على الرغم من كم الإنفاق العسكري، فاهتزت صورة الذات لديهم، وكانوا بحاجةٍ إلى ما يرمم هذه الصورة، ويعيد إليهم شيئا من الكرامة والاعتداد بالنفس، وهي الحاجة التي تملقها السيسي بدرايةٍ وتدبير، ساعده عليها ما تبدى من انعدام كفاءة الإخوان المسلمين في الحكم (دون الخوض في أسبابها وتحليلها).


لكن حكمه يظل انقلابيا واتضح في ما بعد أنه نهبيٌّ أيضا، يسعى لتعويض ضباط الجيش في المقام الأول عن مكانتهم المتراجعة عبر حقبة ما بعد الحرب في زمن السادات ومبارك، بالاستيلاء على أكبر قدرٍ ممكن من الاقتصاد، إما مباشرة أو وساطة في صورة «السمسرة»، وإن حكما كهذا لا يستطيع الاستمرار بدون المؤامرات لتغطية ومن ثم تمرير قمعه وانفراده بالسلطة وتمرير سرقاته. الدافع نفسه يقف وراء صفقات السلاح الضخمة التي تضرب عدة عصافير بحجرٍ واحد، فمن ناحيةٍ تمثل رشى لشركات السلاح الضخمة التي يخالها السيسي قادرة (بل ربما مسيطرة) على التأثير في حكوماتها، ومن ناحيةٍ أخرى توفر فرصة للإثراء السريع لطابورٍ طويل من الضباط (ربما هو في عدادهم) في صورة عمولات، وأخيرا فهو يرضي بها الشعور الوطني والتوق للكرامة، خاصة لدى صغار الضباط الناقمين في ما قبل على ضعف تسليحهم.


ليس يخفى أيضا تعثر مسار المفاوضات مع الجانب الإثيوبي، الذي بدأ بالفعل في ملء سد النهضة، وما يسببه ذلك من جزعٍلدى الناس، حتى لو بصورة غامضة، وما قد يؤذن بالتطور إلى سخط. ثمة فشلٌ حقيقي في ملفي سد النهضة وليبيا ناجمٌ عن حماقة في الاختيارات، والتعامل يضاف إليهما ضغطٌ خليجي للتدخل في ليبيا، واستثمارٌ طيلة السنوات الماضية في تضخيم وتمجيد دور القوات المسلحة وفي عظمة السلاح كأنه الحل لكل شيء.


هناك سلاحٌ يبدو أنه وفيرٌ الآن وأموالٌ تدفقت وقد تُحجب، وهناك شعبٌ يجتر مخزونا هائلا من شوفينيةٍ وطنية متوارثة ومتأصلة، لم تزدها قرون الإهانات من الأجنبي إلا سعارا وعصابا، وجاء هذا النظام ليزكيها، شعب يشعر بإهانة مما حدث في سد النهضة ويطالب بالدم والثأر، ربما من أي أحد، غضبٌ وخوفٌ وجودي وكرامةٌ مهانة وسلاحٌ ومال.. باختصارٍ نحن أمام عناصر عاصفةٍ تتخلق، والكل يزايد بدعاوى الوطنية والاصطفاف وراء القيادة مخونا الآخرين. في هذا المنعطف تحتم على قناعاتي بأن أسجل موقفا، بأن أجأر عاليا بالأصالة عن نفسي وعن مجموعة قد يشكلون قلة فأقول: لا للحرب. فمن ناحيةٍ إنني أرى الجيش المصري متورطا في حرب في سيناء قيل لنا إنها ستنتهي في شهور منذ سبع سنين تقريبا، بدون إحراز أي تقدمٍ يذكر، والدليل العملية الإرهابية في بئر العبد، فما بالنا ببلد شاسع يكاد أن يكون ضعف مساحة مصر؟!


إن الواقع الليبي معقدٌ ومؤهلٌ لأن يكون مستنقعا أو رمالا متحركة تهلك الجيش وتبتلع جنودا كثرا، أبناء الناس الغلابة. ومن ناحية أخرى فإنني أرفض حربا تخاض لتأمين موقف السيسي والتغطية على كارثة سد النهضة، وتلبية لداعمي انقلابه في الخليج، ثم يدفع ثمنها الناس، كما إنني أدرك أن الواقع المصري لن يتحمل الحرب اقتصاديا، ناهيك عن أي إهانة عسكرية.


الحل في ليبيا سياسي، وفي مقدور النظام الذي يتعايش مع إسرائيل أن يتعايش مع أي نظامٍ يختاره الليبيون، حتى لو كان لتركيا يدٌ في اختياره أو نفوذٌ فيه، ولست ضد أن تضغط الدبلوماسية المصرية من جانبها، على العكس تماما، لكن قناعتي ثابتة بأن الحل لا بد أن يكون سياسيا، وينبغي لمصر ألا تتورط بريا. لا بد أن نتشبث بتماسكنا الذهني واتساقنا المبدئي، فنقول: لا للتصعيد ولا للحرب، ونعم للعملية والضغط السياسيين فهذه الحروب ليست حروبنا، بل هي حروبٌ استدعتها مصالح طغمٌ حاكمة وسيدفع أبناؤنا ثمنها ولن يجنوا مكاسبها، فلا بد من تجنبها بكل ثمن.

 

(القدس العربي اللندنية)