ثمة علاقة لافتة بين الشهيدين غسان كنفاني وناجي العلي. كل منهما مبدع فلسطيني، ذو موقف نضالي صريح، يرفض منطق الحوار بأي صورة مع الاحتلال الإسرائيلي، يغامر بحياته ويعلم أنه شهيد محتمل، دون أن يتراجع أو يحيد عن نضاله خطوةً صغيرةً، ثم يستشهد على نحو وحشي، ويبقى حيا في وجدان المثقفين العرب وعامة الشعب الفلسطيني.
اللافت في تلك العلاقة أيضا أن كنفاني كان أول من قدّم ناجي العلي باعتباره رسام كاريكاتير شابا. التقيا حين زار كنفاني مخيم عين الحلوة حيث يعيش ناجي، فنشر له ثلاث رسمات سنة 1961، في مجلة "الحرية" التي أدارها، كأنه يرحب بتلميذ نجيب لن يحيد عن دربه. وفي الشهر ذاته (شهر يوليو)، يسقط الشهيدان على ثرى المنفى، حالميْن بأرض الأجداد. فقد فجّر الموساد سيارة كنفاني يوم 8 يوليو 1978، بينما تتبّع قاتل مجهولٌ ناجي في لندن بعد أن ترجّل من سيارته، وصوّب عليه رصاصة واحدة أسفل عينه، أرقدتْه في غيبوبة بالمستشفى يوم 22 يوليو، وانتهت باستشهاده يوم 29 أغسطس 1987.
لعل ذلك مدعاة لإعادة تأمّل رؤيتنا الآن للصراع مع الاحتلال الإسرائيلي، في زمن نشهد فيه وزراء خارجيةِ دولٍ عربيةٍ كبرى يبكون بكاءً مراً في عزاء رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق شيمون بيريز، الذي كان من ركائز قيام إسرائيل. بدا بكاء الوزراء العرب غريبا بكل المقاييس. لم تكن إسرائيل حليفا معلنا لأية دولة عربية، ولم يُعرَف عنها دعم أي قضية عربية بأي شكل يجعل تلك الدموع مفهومة، ولو بمنطق النفعية السياسية التي تبرر به الأنظمة العربية مواقفها الحالية من إسرائيل.
من مأثورات ناجي العلي: "لا أفهم هذه المناورات، ولا أفهم هذه السياسة، طريق فلسطين واحدٌ وحيدٌ هو البندقية".
لعل ذلك دافع أيضا لتأمل جملة علاقاتنا ورؤانا لأنفسنا وحيواتنا وما ندافع عنه وما يمكننا التخلي عنه... مبدعان شهيران، فُتِحت لهما أبواب النجاح والشهرة وعاينا ذلك في حياتيْهما، مع ذلك اختارا التعرض لقتل وحشي دفاعا عن مبدأ لا يبدو أنه سينتصر، على الأقل في القريب العاجل.
يستدعي ذلك أيضا أن نتأمل موقف درويش، شاعر القضية الأشهر، الذي اتُّهِم، ظلما، بقتل ناجي العلي بعد أن سخر ناجي في إحدى رسماته من دعوة درويش للحوار مع أدباء إسرائيليين، فاستعار شعر درويش "بيروت خيمتنا الأخيرة" وأعاد صياغتها محوّرا: "درويش خيبتنا الأخيرة"، ولأن الرسمة نُشرت قبل استشهاده بشهور قليلة فقد بادر البعض، دون دليل، باتهام درويش باغتياله.
شرح درويش موقفه السياسي وقتها. كان يرى أن الحل الممكن للقضية الفلسطينية ليس حلا واحدا نهائيا دون أدنى مرونة. لا تنحل هذه القضايا وفق التفكير الحاسم؛ إما أبيض أو أسود. بل رأى أن الحوار مع المثقفين والكتّاب الإسرائيليين الذين يعترفون بحق الفلسطينيين في وطن آمن على أرضهم، ضغطا مهما على السلطة الإسرائيلية التي لا ترى غير لون الدم.
لا يبدو لي درويش مخطئا بمنطق السياسة. وفي حدود اطلاعي، لم ينتصر المناضلون في مظالم تاريخية عديدة ببنادقهم فحسب، بل كان التفاوض مرحلة مهمة من مراحل النضال، وكان، في الأغلب، استكمالا لما بدأه النضال المسلح، الذي يضطر المحتلين أو المستبدين للتفاوض العاجل لإيقاف خسائرهم، والخروج من السلطة خروجا أقل مهانة.
ربما كان كنفاني وناجي راديكاليين على نحو صريح، لكنني لا أدري هل كانا سيرفضان التفاوض مع الاحتلال إذا نجحت المقاومة المسلحة في الضغط عليه، بحيث يضطر إلى تقديم تنازلات حقيقية للفلسطينيين؛ أعني تنازلات تغير الواقع، لا بروباغندا إعلامية تروج لسلام زائف. ربما كانا سيدعمان فكرة التفاوض الحذِر والمشروط حينئذ.
وُلد ناجي العلي سنة 1937 بقرية الشجرة التابعة للجليل. وفي العاشرة من عمره ارتحل مع أسرته إلى مخيم عين الحلوة بلبنان بعد الاحتلال، الذي بادر إلى اعتقاله بعدها فبدأ يرسم على جدران السجن.
تضمن هذه البداية مسارا راديكاليا رَسَم حياة ناجي بعدها، خاصة بعد لقائه بمكتشفه كنفاني. ومما يلقي ضوءا كاشفا على طبيعته الراديكالية شخصيتُهُ الأشهر "حنظلة"، تلك التي رسّخت شهرته حتى أصبحت إمضاءه على رسوماته. فقد رسمه طفلا في العاشرة من عمره، سنة 1969، وهو عمر ناجي حين غادر وطنه مضطرا مع أسرته بعد الاحتلال.
قدمه ناجي بقوله: "عزيزي القارئ اسمح لي أن أقدم لك نفسي. أنا وأعوذ بالله من كلمة أنا اسمي: حنظلة. اسم أبي مش ضروري. أمي اسمها نكبة... نمرة رجلي ما بعرف لأني دايما حافي، تاريخ الولادة: ولدت في 5 حزيران 1967".
تلك نقطة انطلاق جيدة نحو عالم ناجي العلي. هو فنان اختار تعرية الأقنعة كرفيقه كنفاني. يستعين بالكتابة دائما ولا يكتفي بالرسم. بل هو يستحق وقفة خاصة لتأمل رسومه، فهو مقتصد تماما في الرسم كما يبدو لي. وهو يهمل قواعد المنظور على نحو يبدو متعمدا، كأنه يعبر عن الاختلال الذي يعاينه في حياته، فلماذا ينبغي ضبط المنظور إلى شخصية حنظلة، الذي نرى قدميه من منظور جانبي بينما نرى جسده من منظور خلفي؟ لماذا يحرص على ذلك في عالم يرى فيه قتلة شعبه يُقدّمون كضحايا لا سفاحين، ويرى الأنظمة العربية ومنظمة التحرير الفلسطينية، من وجهة نظره الصارمة، متواطئة أيضا؟
يتسق مع ذلك ما نراه من إهمال متعمد أيضا، كما يبدو لي، فهو يرسم حنظلة في أوضاع مختلفة أو بتفاصيل مختلفة، لكنه، مثلا، يحرص دائما على عدم تشبيك كفيه الممدودتين وراء ظهره، مع أنه أمر سهل على أي رسّام، وهو الوضع الطبيعي الذي نتخيّله جميعا لطفل غاضب. لكن ناجي يختار عدم تشبيك أصابعه، كأنه يشير رمزيا إلى تفكك عالمه العبثي.
ذلك يثير أسئلة أخرى عن اعتماده على الكلام المكتوب، حتى يصل في بعض الأحيان إلى الاعتماد عليه أكثر من الاعتماد على الرسم، بمعنى رسم أكثر من رجل بسيط تماما، ومتكرر في رسماته الأخرى، ثم يُنطقُه بالنقد السياسي الذي يريده، كما فعل في رسمة درويش، التي يكاد محتواها يتركز في الكلام المكتوب وليس في رسمة الرجل. تبدو هذه الطريقة غير منتشرة الآن، فالاعتماد على الرسم صار أقوى، حتى نجد كثيرا من رسامي الكاريكاتير الآن لا يكتبون كلمة على رسوماتهم.
تلك شخصية ناجي التي اختارت أشد الطرق تعبيرا عن الغضب، وأقلها بالحمولة السياسية الصارخة في وجه الاحتلال. وهذا ما يقودنا إلى السؤال الأصعب، وإن كان مجهول الإجابة: مَن الذي قتله؟ انحصرت الاتهامات في جهتين: الموساد الإسرائيلي ومنظمة التحرير الفلسطينية، لأنهما أكثر من تلقى الضربات من ريشته المسنّنة.
لم تتوصل الشرطة البريطانية إلى قاتله وقتها، لكنها عادت في أغسطس 2017، وبمناسبة ذكراه الثلاثين، إلى فتح التحقيق في الجريمة، آملة أن يكون مرور السنوات الثلاثين كافيا لتغيير الولاءات السياسية، بحيث يرغب بعض الصامتين في الإدلاء ببعض المعلومات المفيدة للشرطة، لكن يبدو أن الولاءات السياسية للقتلة لا تتغير كثيرا بمرور الزمن.
في لقاء مع البي بي سي، صرح خالد نجل الشهيد ناجي العلي بأن الشرطة البريطانية أخطرته بأنها تتقدم في تحقيقاتها دون أن تبوح له بأي تفاصيل، مثلما ينبغي في تلك القضايا، لكنه صرح أيضا بأن الشرطة البريطانية أعلنت عن اسم مشتبه به يُدعى مصطفى عبد الرحمن من القوة 17 التابعة لياسر عرفات. حكت ابنة ناجي أيضا أنّ أباها وصلته تحذيرات صريحة من شخصيات فلسطينية مطلعة على بواطن الأمور بأن شيئا يُدبَّر ضده. يبدو أن ذلك ما عرّفه بمصيره، حين صرح بجملته الشهيرة: "اللي بدو يكتب لفلسطين، واللي بدو يرسم لفلسطين، بدو يعرف حالو: ميت".
وحتى الآن لم تتوصل الشرطة البريطانية إلى نتيجة معلنة.