المساجد في فلسطين لا تقتصر على العبادة والتقرب إلى الله عز وجل فقط، فهي بالإضافة إلى الجانب الروحي والمعنوي والإيماني، تعد مخزونا تراثيا وتاريخيا يؤكد إسلامية وعروبة هذه الأرض التي بارك الله حول مسجدها، المسجد الأقصى.
في هذا البحث نتلمس قبسا من النور من مساجد فلسطين التاريخية التي تشكل معلما تراثيا وإرثا إنسانيا ومعمارا فنيا ساحرا، ولن نعرج في هذا البحث على مساجد القدس والمسجد الإبراهيمي في الخليل لأنها مساجد معروفة للجميع وتحتاج منا إلى بحث مستقل وموسع، وسنركز على المساجد التي لا يعرف عنها القارئ العربي خارج فلسطين الكثير ضمن معركة الذاكرة في الحفاظ على الذاكرة الوطنية الفلسطينية والعربية.
مسجد الجزار:
يعتبر جامع الجزار أهم مساجد عكا على الساحل الفلسطيني لضخامته وعلو قبته الخضراء وجمالها، وفيه تقام خطبة الجمعة المركزية في المدينة، وقد بني في القرن الثامن عشر على يد حاكمها في الحقبة العثمانية المتأخرة، أحمد باشا الجزار الذي يدلل لقبه على شدة بأسه.
ويأخذ المسجد المبني على الطراز العثماني وفي ساحته ضريح بانيه، شكلا مستطيلا جلبت حجارته من خرائب قيسارية وعتليت في فلسطين، حيث إن الغرف المحيطة بالمسجد استخدمت مأوى لطلاب العلم ممن درسوا في مدرسة الأحمدية حتى عام 1948.
يقصد المسجد العديد من السياح ليتمتعوا بجماله وعظمته، ونوعية الكتابة الفاخرة لمختلف الآيات القرآنية التي تحيط بالقسم العلوي من الجدران، هو من أجمل المساجد وثاني أكبر مسجد في فلسطين بعد المسجد الأقصى في القدس.
وسمي مسجد الجزار بهذا الاسم نسبة إلى أحمد باشا الذي ولد في البوسنة، واشتهر بالجزار بسبب وحشيته وقسوته في التعامل مع أعدائه، وفي عام 1776 عين واليا على عكا، وشيد المسجد في أواخر القرن الثامن عشر عام 1781، على أنقاض جامع "يوم الجمعة" وكنيسة "الصليب المقدس". وبالقرب من المسجد يوجد ضريح ومقبرة صغيرة تحتوي على قبر أحمد باشا الجزار وابنه بالتبني، وخليفته سليمان باشا عادل وأقاربه.
واشتهر الجزار باشا بالدفاع عن عكا ضد قائد الحملة الفرنسية نابليون بونابرت أثناء حصار عكا عام 1799 حيث حاول الجيش الفرنسي غزو فلسطين وسوريا بعد الاستيلاء على مصر وهزيمة العثمانيين، ونجح الجيش الفرنسي في الاستيلاء على المدن التي دخلها، لكنه ظل غير قادر على اختراق تحصينات عكا. وبعد عدة أشهر من الهجمات المتكررة فشل نابليون في دخول المدينة. وفي عام 1801 اضطر نابليون إلى الانسحاب من مصر والشرق.
والمسجد مثال ممتاز للهندسة المعمارية العثمانية، والذي تضمن كلا من الأساليب البيزنطية والفارسية، وبعض معالمه الجميلة تشمل القبة الخضراء ومئذنة. ويوجد السبيل الأخضر الذي يغطي القبة ويكسوها لونا مميزا، وبالقرب من المسجد هناك بئر ماء، وباحة كبيرة تعج بالأشجار والنخيل.
الجامع الأبيض:
يعد الجامع الأبيض من أشهر جوامع فلسطين، وقد أقامه سليمان بن عبد الملك، عندما كان واليا على مدينة الرملة وسط فلسطين ثم أتمه أثناء خلافته، وبالتالي فقد وصفه عدد من المؤرخين بأنه يقع وسط الرملة، وأنه كان من عجائب الدنيا في الهيئة والعلو.
وعقب الانتهاء من بنائه في عهد الخليفة عمر بن عبد العزيز عام 720 بعد فتح فلسطين وبلاد الشام كلها، وبعدما أصبحت الرملة أحد المراكز المهمة للجيوش المسلمة الفاتحة والمتجهة إلى مصر، أعيد بناء المسجد مرة أخرى في عهد المماليك. لم يبق اليوم من المسجد سوى المئذنة الكبيرة، لذا فإنها تطلق عليه سلطات الاحتلال الإسرائيلية اسم "البرج الأبيض" بدل "المسجد الأبيض". يشار إلى أن المسلمين كانت لهم مناسبة دينية منذ مئات السنين في هذا المسجد كانوا يطلقون عليها "موسم النبي صالح"، والذي يعتقدون بوجود مقامه في الجزء الشمالي من المسجد.
جدده صلاح الدين الأيوبي عندما استرد الرملة، وعندما افتتح الظاهر بيبرس يافا عمر القبة والباب التابعين للمحراب، وعمر المنارة القديمة التي زالت، ثم بنى له الناصر محمد بن قلاوون منارة عظيمة.
في عام 1034 دمر المسجد بعد زلزال شديد وقع في بلدة فلسطين القديمة، وأصبح الجامع الأبيض كومة من الأنقاض. وفي عام 1047 أعيد بناء المسجد. وفي عهد الدولة الأيوبية أضيف إلى المسجد سور غربي. وفي عام 1267 بدأت المرحلة الثالثة لترميم المسجد بعد انتهاء الاحتلال الصليبي للقدس، بناء على أوامر السلطان المملوكي الظاهر بيبرس، وشيدت مئذنة، لكنها هدمت بعد زلزال كبير، وهو ما جعل السلطان محمد الناصر بن قلاوون يأمر بتجديد المئذنة. وأخر ترميمات الجامع وقعت في زمن السلطان العثماني محمد رشاد.
جامع حسن بك:
ويلفظ أيضا مسجد حسن بيه. وهو مسجد أثري يعود إلى عهد الدولة العثمانية في فلسطين، ويقع في شمال مدينة يافا على شاطئ البحر الأبيض المتوسط، بحي المنشية تحديدا. وهو يعتبر الأثر المعماري الإسلامي والعربي الوحيد في الحي، بعد أن قام الاحتلال الإسرائيلي بهدم الحي بأكمله. وأسس وبني في عام 1916 وسمي نسبة إلى حاكم يافا العثماني حسن بيك.
بني بنمط معماري فريد، حيث استخدم الحجر الجيري الأبيض بدل الحجر الأصفر المتعرف عليه في المنطقة منذ القدم عام 1916 على الطراز العثماني الفريد. وهو ذو قبة واحدة ومنارة واحدة أيضا. وتشكل منارته الأسطوانية المضلعة تضادا مع قاعة المصلين المربعة.
ويقع المسجد بارتفاعه الشاهق على ساحل البحر الأبيض المتوسط على الطريق السريع المؤدي إلى يافا، ويعد المسجد الأثر العربي والإسلامي المتبقي في المدينة، بعد أن قام الاحتلال الإسرائيلي بهدم الحي القديم بأكمله بعد نكبة عام 1948، وحاول الاحتلال هدم المسجد مرات عديدة بحجة تطوير المدينة.
وظل مسجد حسن بك بعد النكبة مهجورا ومهملا لسنوات عديدة، وكان يدخله المتشردون والمدمنون من الإسرائيليين لتعاطي المخدرات، وفي عام 1979، أعلن فجأة من قبل الدولة العبرية عن مشروع للتطوير العقاري في يافا، وكان مخططًا هدم المسجد وتحويله إلى مركز للتسوق، ولكن المشروع أثار عاصفة من الاحتجاجات من جانب العرب في الداخل الفلسطيني، المدعومة من جماعات السلام وحقوق الإنسان، وكانت النتيجة أنه تم إلغاء مشروع التطوير وعاد المسجد تحت إدارة المسلمين في يافا التي أعادت فتحه للصلاة عام 1988.
بعد النكبة تعرض المسجد إلى اعتداءات ومحاولات رسمية أيضا لهدمه بحجة التطوير، كان أخطرها في العام 1981، بيد أن هبة فلسطينيي يافا أنقذته من يد التخريب والتدمير وقد تم ترميم ما تصدع من أجزائه بفضل أهالي المدينة وعموم فلسطينيي 1948.
إقرأ أيضا: قبس من نور أقدم مساجد فلسطين (1-5)
إقرأ أيضا: قبس من نور أقدم مساجد فلسطين (2من5)
إقرأ أيضا: قبس من نور أقدم مساجد فلسطين (3 من 5)
إقرأ أيضا: قبس من نور أقدم مساجد فلسطين (4من5)
قبس من نور أقدم مساجد فلسطين (4من5)
قبس من نور أقدم مساجد فلسطين (3 من 5)
قبس من نور أقدم مساجد فلسطين (2من5)