قد لا يسمع بعض من شبابنا عن هذا المصطلح، وقد لا يكونون درسوه في المدرسة، فلقد تغيرت في الإعلام العربي النافذ مصطلحات كثيرة في مفردات التحرير المملاة على إدارته من قبل جهات سياسية أو سيادية. ولما كان الإعلام "عدوى"، فإن التقليد هو سيد الموقف على الغالب، فتجد الصحف والمجلات والإذاعات والقنوات المحلية منها والفضائيات (الخاص منها أقصد) قد تغير مصطلحات تحريرية من دون أن تشعر، لأسباب كثيرة ليس المجال لشرحها في هذا المقال، لكن المحصلة في النهاية، مع تقنية القص واللصق، أن يشارك الصحفي أو الإعلامي في تغيير وعي الأمة من دون أن يشعر وربما أن يقصد.
عود على بدء، وحديث عن مصطلح قد اندثر، والأمر في النهاية تدريجي، تعتاده الآذان وتألفه الطبائع مع الزمن، فبديلا عن مصطلح الصراع العربي
الإسرائيلي، حوّل الإعلام العربي، مدفوعا بمواقف سياسية بدأت عاما بعد عام، المصطلح إلى الصراع
الفلسطيني الإسرائيلي، لتختزل القضية من الأمة إلى شعب، وعلى هذا الشعب أن يواجه مصيره ويعالج مشاكله وحيدا، منتظرا إنعام المانحين أو فضل الخيّرين، وإن كان الموقف بدأ سياسيا.
فبفضل التعاون الخفي بين الإعلام الرسمي لتلك الدول، وهيمنة المخابرات على مفاصل الثقافة والإعلام، كان من اليسير أن يتسرب ذلك الفهم لمدركات الشعوب، حتى أصبح البعض يتكلم بصيغة "هم فعلوا"، و"ليس علينا أن ننخرط في مشاكلهم، ويكفينا ما يَكفينا".
من نافلة القول الاسترسال في قضية الوجود الإسرائيلي في قلب أمتنا العربية، وما يمثله من قطع للوريد الواصل بين عقل الأمة وقلبها، كما أنه من نافلة القول ذكر أن الكيان المحتل هو مشروع توسعي تجاوز الهدف من إنشائه، وعليه فإنه عمل استراتيجيا على تحييد القوى البشرية والعسكرية الكبرى في الأمة، مثل مصر والعراق وسوريا، والقوى الاقتصادية الكبرى، مثل السعودية كدولة والخليج ككتلة اقتصادية متمثلة بمجلس التعاون، وإندونيسيا وماليزيا، فاستطاع بمساعدة القوى الإمبريالية التاريخية عقد اتفاق سلام مع مصر لتخرج من المعادلة، ثم تحييد العراق ثم سوريا لتصبحا دولتين فاشلتين، وليتخلص من كل من إندونيسيا ثم ماليزيا باضطرابات اقتصادية مصنوعة بعناية، ليبقى الخليج وعلى رأسه السعودية، هدفا سعى الاحتلال للعمل عليه.
منذ أيام وتحديدا في الثالث عشر من شهر آب/ أغسطس أعلنت دولة
الإمارات والكيان الإسرائيلي عن اتفاق سلام بينهما أو ما عُرف باتفاق إبراهيم، وحيث أن الإمارات لم تشارك في أي حرب ضد الكيان المحتل، فالتوصيف الحقيقي لما تم الاتفاق عليه برعاية أمريكية هو اتفاق تطبيع كامل الأركان، وهو الاتفاق الثالث بعد الاتفاق الذي أبرم بين الكيان وكل من مصر والأردن.
وإن كان بحساب الأعداد يعد الاتفاق الثالث، لكن حقيقة العلاقات البينية بين الكيان والدول العربية والإسلامية يشمل العديد من تلك الدول. وبنظرة بسيطة للدول التي باركت اتفاق
التطبيع الإماراتي، ستعرف أن هناك أنظمة ينقصها التجرؤ على شعوبها فقط لتعلن هذه الخطوة في العلن. فالزواج السري الذي يجمع الكثير من الأنظمة العربية والإسلامية مع الكيان المحتل ينقصه الإشهار، ما يجعله في النهاية علاقة آثمة، فـ"الإثم ما حاك في صدرك وخشيت أن يطلع عليه الناس".
إذن فلماذا تقترف أنظمتنا الإثم؟ وإن كنت غير مخول بالرد عن هذه الأنظمة، لكن اسمحوا لي أن أضع بعض التفسيرات لهذا السلوك، وهو أمر متاح في دنيا التحليلات، بعد خروج مصر من معادلة "الصراع العربي الإسرائيلي": افتقاد الأمة العربية، على الأقل، لقيادة تدير دفة ذلك الصراع، بعد أن تنافس كل من العراق وسوريا والسعودية على هذا المقعد (مقعد القيادة) ولم يفلحوا. وبعودة مصر للجامعة العربية، تنافس كل من النظام المصري والنظام العراقي على هذه القيادة، فأصبح بأسنا بيننا، ليقع صدام حسين في الخطيئة ويأكل من شجرة السفيرة الأمريكية في بغداد ويدخل الكويت، ليفتح الباب أمام النظام المصري، عرّاب التطبيع في المنطقة، للتهوين من العلاقات العربية- العربية. وبعد الثورات العربية، تسلمت الإمارات راية التطبيع خوفا على عروش ممالك الخليج ونفطها المنهوب بمعرفة أسرها الحاكمة.
استطاعت الإمارات إقناع ولي العهد السعودي، الطامح للعرش، بأن مفتاح باب هذا المنصب في تل أبيب، فأنفق المليارات لخدمة المشروع الصهيوني الهادم مقابل الحفاظ على المناصب أو ترفيعها.
لكن تبقى في المشروع أزمة كبيرة، وهي الرفض الشعبي العربي والمسلم لهذه المشروعات التطبيعية، على خلفية واعية بأن المشروع الإسرائيلي في المنطقة، وإن كان يتخادم مع تلك النظم، فهو لن يخدم في لحظة من لحظاته هذه الشعوب المتمسكة بهويتها ودينها. فشواهد أفعال الكيان المحتل للناظرين عيان، في فلسطين والعراق وسوريا والخليج من خلال حكامها، ومن ثم على هذه الشعوب الحرة الواعية أن تمتلك زمام المبادرة وعناصر القوة، بكل معانيها، مع استحضار رؤية استراتيجية جمعية تقف على تقسيم الأدوار وتكاملها في إطار هدف جامع؛ هو نصرة قضيتنا الجامعة.