قد نختلف في الكثير من تاريخ هذا البلد (تونس)، ولكن لن نختلف في الدور المحوري لعرابي السلطة والعائلات، والتي لم تتأثر أبدا بتعاقب الأنظمة وبتتالي الأزمنة، فعائلات المخزن والمنظومة المخزنية للبايات أصبحت بُعيد الاستقلال النخبة الجديدة. فالبرجوازية المحلية وكارتيلات العائلات المتنفذة حديثا، برجوازية نُهِمَت بالخيرات والانتفاع الآلي والاستفادة من الريع الذي يوفره جهاز الحكم المركزي للدولة، والذي استُخدم على مدى قرون لحيازة أو ترسيخ موقع السلطة وتحريك الموارد وتوزيع الامتياز وصنع الولاءات..
يُعتبر العلامة "ابن خلدون" في كتابه "المقدمة" من الأوائل الذين تطرقوا لتبيان مفهوم الريع على أنه "كسب دون عمل"، كما استعمله "آدم سميث" في كتابه "ثروة الأمم" باعتباره شكلا من أشكال المردود المالي، وميّزه عن الرزق الذي يتطلب جهدا. أما "كارل ماركس" فكان أول من لفت النظر إلى ما سماها الرأسمالية الريعية كنمط اقتصادي، في كتابه "رأس المال"، وكان يقصد بها ظاهرة اقتصادية- اجتماعية يصف من خلالها الطبقة الرأسمالية غير المنتجة اقتصاديا، وأشار إلى أن الاقتصاد الريعي يقوي علاقات القرابة والعصبية.
عندما نتحدث عن مفهوم نظام ريعي نفكر على الفور في أنظمة النفط في دول الخليج أو ليبيا أو الجزائر، كما تعرفه دراسات الأوائل حسين مهدفي، وحازم الببلاوي، وجياكومو لوشياني، والذي تم تطويره في السبعينيات استنادا وبشكل أساسي إلى أمثلة الدول المنتجة والمصدرة للنفط، حيث يُعرَّف الريع بأنه الأرباح الناشئة مباشرة من بيع المنتجات الطبيعية وليس من الإنتاج.
لكن في الواقع، هناك أيضا دول ريع غير نفطية، كالأردن ومصر، والتي تتلقى جزءا من دخلها القومي من خلال المنح والمساعدات العربية والغربية، أو كواقع الحال في تونس، حيث يقوم الاقتصاد على أساس خلق وحماية واستغلال الامتيازات أو الرخص أو فرص الاستثمار الخالية من المنافسة والكفاءة الاقتصادية، ولصالح فئة بعينها.
وتكمن الخطورة (في تونس) أنه يكتسب طابعا "قانونيا"، إذ أن الفصول والمناشير التي ترعى هذه الحالة عادة ما تكون مكرّسة في القوانين والمراجع الرسمية وامتيازات الرخص وكراسات تشجيع الاستثمار، حيث يعرفها خبير اقتصاديات التنمية حسن عاشي بأنها جزء من النظام الاقتصادي السياسي، ومصدر أساسي لشرعيته. يعتمد هذا النظام تاريخيا على عقد ضمني أو صريح يتم بموجبه منح الريع من قبل السلطة السياسية لمجموعة مصالح مقابل طاعتها ودعمها السياسي. تطورت مصطلحات آليات الريع وحزمها وأصبحت أكثر تعقيدا بمرور الوقت، ومع ذلك فإن الغرض منها وتأثيراتها تظل كما هي.
سأنطلق من وجهة نظر شخصية وفقا لمنظور سوسيولوجي وثقافي.. ليس الريع هو الواجب لومه، ولكن الثقافة الوطنية والرسمية التي ينتجها الريع، وكرسها تجاهل حتمية العمل والجهد لتحقيق الربح، إنها تنشر عقلية تعزز الاستيلاء على الغنائم وتجميع المرابيح بأقل جهد.
إن تركيز الثروة والسلطة في تونس بأيدي عدد قليل من أصحاب الريع وعائلات الامتياز ليس انحرافا عن عقيدة الدولة، ولكنه نتيجة منطقية ومنتظمة. فالسلطة السياسية في اقتصاد يهيمن عليه الريع لا تسمح بتغيير موازين القوى لمصلحة المصعد الاجتماعي وقيم مجتمع العمل والإنتاج والعلم، بل نجد غالبا فاعلين منحرفين يقضون وقتهم وعلاقاتهم في العثور على المغانم والمنح والرخص وامتلاكها، فيبتعد المستثمرون عن الأنشطة التنافسية التي تتطلب جهودا إبداعية وإنتاجية؛ لصالح الأنشطة التي توفر الوصول إلى فرصة تراكم الثروة خارج الدورة الطبيعية، وغالبا ما يكونون على استعداد لخرق القواعد الرسمية أو اللجوء إلى دوائر السلطة والفساد للاستفادة منها.
تونس تحتفظ بتاريخ دائم مع الريع وعرابيه، تونس محمود بن عياد الذي كلفه صديقه أحمد باي بلزمة توريد الحبوب، والإشراف كمستلزم دائم على مطامير الدولة للقمح، أو ما تسمى بالرابطة التي يقع فيها مستشفى الرابطة حاليا، مقابل أن يدفع مبلغا ماليا للدولة كل عام.
تونس نسيم الشمامة الذي تمكن من الحصول على العديد من اللزمات، مثل القمح والزيت والمسكرات، كما سيطر على عدة قطاعات أخرى، مثل الملح والفحم والصابون، إضافة إلى ذلك تمكن من الاستحواذ على لزمة تحصيل الرسوم على البضائع العابرة للموانئ بعقد طويل المدى، في موانئ حلق الوادي والبحيرة وصفاقس وسوسة.
تونس الانفتاح في عهد الهادي نويرة واستراتيجية تنمية القطاع الخاص، وصناعة طبقة من رجال الأعمال من العائلات النافذة والسياسيين والبرجوازية المحلية وكبار موظفي القطاع العام.
تونس العائلات الحاكمة والمتصاهرة منذ التسعينيات، وخلق الفرص واحتكارها في مجالات النقل البحري والجوي والاتصالات والتجارة والتوزيع والعقارات والفنادق والمطاعم والخدمات المالية والتأمين، وتمثيل العلامات الأجنبية والفضاءات التجارية الكبرى.
قد لا نجد إلى اليوم إجماعا وطنيا حول التأثير السلبي لـ"دولة زبونية الريع" على التحول الديمقراطي في تونس، بحكم نفوذ جماعات الضغط على الكيانات الحزبية والمدنية، ولكن لا يمكن نفي (وعلى مدى العقود الماضية) وجود علاقة أوتوماتيكية بين الطابع الريعي للاقتصاد واستقرار النظام الاستبدادي منذ الاستقلال.
سيؤدي انتشار الريع في مفاصل الدولة بشكل خطير إلى تقويض التماسك الاجتماعي، إذ تنافست العديد من جماعات الضغط ذات المصالح المتضاربة في محاولة للتأثير على القرارات السياسية ونجحت، ولا نحتاج لدلائل لتبيان ذلك في العقد السياسي الأخير. ردا على ذلك، سيعود البيروقراطيين وأرباب الإدارة أيضا للبحث عن الريع، مثلهم مثل الفاعلين الاقتصاديين العاديين بعد فترة ركود منذ الثورة.
إن محاربة آليات الريع ووضع حد للاستغلال "المقنن" للموارد والدخل الوطني، والانتقال من منظومة الريع إلى الإنتاج، يتطلب رؤية شاملة وعملا طويل الأمد للإصلاحيين والأحزاب الوطنية والمنظمات والفاعلين الاقتصاديين والمنظمات والمجتمع المدني. إنها مهمة لن تكون سهلة، وستواجه جبهة المقاومة كل أولئك الذين يرغبون في حماية مكاسبهم والحفاظ على الوضع الراهن، من المنظمات والشخصيات الأكثر نفوذا على المستوى السياسي والاقتصادي في تونس، ضمن سياق أن كلا من الريع الاقتصادي والفساد السياسي متلازمان، يحصّن كل منهما الآخر..
__________
المراجع:
ثلاثة أسئلة حول اقتصاد الريع في المغرب- مركز كارنيغي للشرق الأوسط– حسن عاشي- 2013.
لقرع بن علي، مدى تأثير الريع على مسار الاصلاح السياسي دراسة مقارنة لدولة الجزائر ودولة الكويت (1989 -2015) جامعة الجزائر، كلية العلوم السياسية، 2015-2016، ص70.
ولي الدين عبد الرحمن بن محمد ابن خلدون، المقدمة (سوريا: دار البلخي، الجزء 1، ط 1.2004)، ص 110.
محمد عابد الجابري، فكر ابن خلدون: العصبية والدولة: معالم نظرية خلدونية في التاريخ الإسلامي، ط 5- بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 1992.
لبنان: المصارف عماد الخطة الفرنسية.. ماذا عن أموال المودعين؟