عندما أعلمني ابني بأن التحليل المخبري الذي قمت به والخاص بفيروس "
كورونا" كان "إيجابيا "، نظرت إليه بحب عميق، لكني لم أضطرب أو أصاب بالخوف. ليس ذلك شجاعة مني، فأنا مثل غيري أحب الحياة وأكره الموت، وإنما هو جزء من طبعي الذي يجعلني أبدو عاديا خلال الأزمات الشخصية والعائلية. لكن مع ذلك بدأت أفكر في ما هو فاعل بي، أيضا في ما يجب أن أقوم به لكي لا أستسلم له بسهولة رغم إيماني بأن الأعمار بيد الله.
هناك لحظات مفصلية في حياتنا لا نستطيع أن نعي بها عندما تأتينا فجأة. تنزل علينا حالة من السكينة، ويبدو لنا وكأننا نقف وراء سحابة عالية ونتأمل في هذا الكون الفسيح، ونستشرف مستقبلا غامضا. فالذي أخبرني به ابني ليس سوى اقتطاع تذكرة في رحلة قد تكون نهايتها الموت، في ظرف يشعر فيه
التونسيون بأن الأشهر القادمة ستكون صعبة ومشحونة بأخبار سيئة. إذ في يوم واحد مات 16 تونسيا وتونسية بسبب الوباء القاتل، وهو رقم له وقعه الخاص في مجتمع صغير مثل المجتمع التونسي.
عادت بي الذاكرة إلى بدايات الحديث عن هذا الفيروس. كنت أتابع أخباره منذ أن كشفت عنه السلطات الصينية، يومها تساءلت بيني وبين نفسي: هل يمكن أن يخترق هذا الفيروس اللعين الأجواء والمحيطات؛ لكي يبحث عني بين أزقة وأروقة العاصمة التونسية لكي يستهدفني ويقتحم بيتي حتى يصل إلى حصني الداخلي؟
هذا ما حصل بالضبط. أشعرني الطبيب بأمر أعلمه مسبقا: "لا يوجد دواء". أدركت عندها أن المعركة ستكون غير متوازية، مع ذلك امتلكني يقين بأن سلاحي هو إيماني بالله أولا، وثانيا قدراتي الجسدية التي كنت أظن بكونها ضعيفة فإذا بجسمي يظهر طاقة عجيبة كامنة فيه. كما اكتشفت في زوجتي قوة قتالية رهيبة، إذ رغم كونها يمكن أن تكون عرضة للعدوى، إلا أنها أثبتت ثقة كبرى في نفسها، وانطلقت في إعداد أنواع محفزة ومثيرة من العصائر الطبيعية والأكلات الصحية النافعة. كما تجندت لتجعل من البيت أكثر نظافة وأمانا وحبا وأملا في الحياة.
يمكنني الادعاء بكوني وعائلتي قد تغلبنا على هذا "الوحش" السري الذي لا يرى بالعين المجردة، والذي لا يزال يخترق أسوار البلدان ويثير الرعب في صفوف شعوب العالم سواء الغنية أو الفقيرة المحاصرة بالجوع والأمراض، المتقدم منها وكذلك الذي لا يزال يواجه الأمية وضعف الخبرات العلمية.
لا تخافوا قرائي الأعزاء، المستقبل لا يزال أمامكم، والموت لن يأخذ منا سوى القليل. قد نفقد بعض أحبائنا، إذ لا توجد حرب بدون خسائر ولا معركة بدون ضحايا، لكن في كل الحالات الحياة تنتصر على الموت، والبقاء يسبق ويهيمن على الفناء.
تلك إرادة الله التي بثها في خلقه. ليس هذا من باب الدعاية أو الادعاء، لكن تؤكده اليوم الأرقام الواقعية، إذ أن أكثر من 98 في المئة من المصابين بهذه الجائحة استعادوا عافيتهم، واندمجوا من جديد في محيطهم العائلي والمهني.
يخشى المصاب من الوصم الذي يسارع البعض إلى ممارسته ضده دون تفكير أو وعي. هناك عينات من أشخاص لا يحسنون التعامل مع الأوضاع والحالات الاستثنائية، لهذا يوقعون غيرهم في حرج شديد، ويصدرون عليهم أحكاما غريبة من أجل عزلهم وممارسة التمييز ضدهم وضد عائلاتهم وأولادهم. في ذلك قمة الجهل والغباء. فهم بذلك لا يتجاوزون الأخلاق والقيم فقط، وإنما ينسون أن هذه الجائحة وغيرها لا تميز بين الناس، وأن ما وقع لجارك يمكن أن ينتقل إليك بعد أن يكون جارك قد استعاد عافيته ورجع ليصبح "شخصا طبيعيا".
ما لمسته شخصيا في هذه التجربة الذاتية أن العائلة مهما ضعفت تبقى الحصن الحصين لكل من يلجأ إليها عندما يتسلل له الوباء.
الذي يلتفت في تلك اللحظات العصيبة فلا يجد أمّا ساهرة أو زوجة مستعدة للدفاع عنه بكل ما تملك من نفس وقوة، ولا يجد أبناء وبنات يطوفون من حوله كأنهم نجوم تضيء سماءه.. إذا غاب ذلك عنه فإنه يشعر بالموت يتسلل إليه قبل أوانه حتى لو بقي حيا.
بعد ذلك يأتي الأصدقاء الخلّص الذين قلّ عددهم وأصبحوا عملة نادرة، أو الذين يحبونك لذاتك، يتمنون لك الخير حتى لو اختلفوا معك في فكرة أو اختيار. إن مخاطر النقص في منابع
الحب لا تقل أهمية بالنسبة لمريض كورونا عن الانحباس في نسب الأوكسجين. كلاهما مؤشر خطير عن تراجع الأمل في الحياة والبقاء.
على مجتمعاتنا أن تتصدى بقوة لفائض الكراهية المتبادلة بين أفرادها، وخاصة بين نخبها. إنه "استثمار سيئ في الوقت الضائع". المساحات المتبقية لم تعد تسمح بمواصلة تصفية الحسابات على حساب الوطن وقانون البقاء. متى تهدأ حروب الأيديولوجيا ورياح كورونا تنتقل هنا وهناك، لا تميز بن يمين أو يسار؟