على وقع أصوات الآلات الهندسية التي انتشرت كالجراد في ربوع البلاد؛ لهدم بيوت
المصريين، بحجة مخالفتها لقوانين البناء، وعلى وقع صرخات النساء اللواتي تهدمت بيوتهن أمام أعينهن، وأمسين وأطفالهن بلا مأوى، اندلعت الموجة الثالثة من الانتفاضة المصرية، في العشرين من أيلول/ سبتمبر الجاري..
الموجة الأولى
وكانت الموجة الأولى قد انطلقت في الخامس والعشرين من كانون الثاني/ يناير ٢٠١١، بدعوة من "صفحة كلنا خالد سعيد" على فيسبوك، واستجاب لها قطاع واسع من الشعب، سيما شريحة الشباب، واستمرت ثمانية عشر يوما، في ميدان التحرير، بقلب القاهرة، انتهت بتنحي حسني مبارك في ١١ شباط/ فبراير ٢٠١٢، وتكليفه المجلس الأعلى للقوات المسلحة بإدارة شؤون البلاد، على لسان نائبه اللواء عمر سليمان..
وبدراسة عميقة لمعطيات هذه الموجة من الانتفاضة المصرية ومآلاتها، لم يعد لديَّ ذرة من شك في أنها كانت بتدبير وتخطيط من جهات سيادية، في نظام حسني مبارك؛ لإقصائه عن السلطة، من بينها أو على رأسها الجيش، بعد أن رفض مبارك (رفضا قطعيا) طلب نتنياهو المشاركة في ما بات يعرف لاحقا بـ"صفقة القرن" التي كانت يجب أن تبدأ بإخلاء المنطقة المحاذية لقطاع غزة في سيناء، وتهجير أهلها قسريا، وهو ما أنجزه الجنرال المنقلب عبد الفتاح السيسي، بأساليب وحشية للغاية، تعد جرائم ضد الإنسانية..
وفي تقديري، فإن رفض مبارك طلب نتنياهو لا يعود إلى وطنيته، وهو الذي طالما وصفه الصهاينة بـ"الكنز الاستراتيجي لإسرائيل"، ولكن حفاظا على تاريخه العسكري، باعتباره "صاحب الضربة الجوية الأولى" في حرب أكتوبر سنة ١٩٧٣، وهو اللقب الذي ظل يتغنى به الإعلام المصري لثلاثين سنة، نفاقا وتملقا لمبارك..
الموجة الثانية
أما الموجة الثانية، من الانتفاضة المصرية، فقد بدأت في الثامن والعشرين من أيار/ مايو سنة ٢٠١٣، عندما استشعر مؤيدو الرئيس محمد مرسي وجود نية للانقلاب العسكري على الشرعية الدستورية، بعد ما أُطلِق عليها في حينه "مهلة القوات المسلحة للقوى السياسية" التي أعلنها الجيش، على خلاف الدستور المستفتَى عليه من الشعب في ٢٠١٢، وفي وجود "القائد الأعلى للقوات المسلحة" الذي هو رئيس الجمهورية، ودون تكليف منه، بل إن الرئيس كان أحد الأطراف التي كان يعنيها هذا الإنذار! الأمر الذي بات واضحا معه أن الجيش عازم على الانقلاب على الرئيس المنتخب..
وقد استمرت هذه الموجة (السلمية تماما) حتى عام ٢٠١٥، دون انقطاع، تخللها عدد من المذابح التي راح ضحيتها الآلاف من خيرة شباب مصر وبناتها، من أشهرها الحرس الجمهوري، والمنصة، وميدانَي رابعة والنهضة، ومسجد الفتح في ميدان رمسيس بالقاهرة، ومسجد القائد ابراهيم في الإسكندرية، ثم توقفت لأسباب يطول شرحها، بيْد أنه من الأهمية بمكان، الإشارة إلى أن "تحالف دعم الشرعية" الذي كان يدعو الشعب للخروج في هذه الموجه، لم يُحسن توظيف الغضب الذي كان يسكن الجماهير، لا سيما بعد مذبحة رابعة في ١٤ آب/ أغسطس ٢٠١٣، ولم يستطع استثمار الزخم الذي صنعته الأعداد الهائلة التي ظلت تخرج (يوميا) على مدى عامين، اعتقادا من القائمين على هذا التحالف أن
المظاهرات الهادرة كافية لإسقاط النظام المنقلب على الشرعية، وهو الاعتقاد الذي أثبتت الأيام أنه كان اعتقادا خاطئا تماما..
الموجة الثالثة
ورغم مرور سبع سنوات على الانقلاب، فلا يزال كثير من المصريين، وفي القلب منهم "النخبة"، يخلطون بين الانتفاضة والثورة، وبين المعارض والثائر، وهذا خلط عجيب، إذا جاز للعامة الوقوع فيه فلا يجوز للسياسي (بأي حال) أن يقع فيه؛ لأن ذلك يربك الأداء العام، وينتهي للا شيء!
فعلى صوت هتافات المنتفضين في قرى مصر، خرج علينا بعض "السياسيين" في الخارج بمطالب "سياسية" لا تقول بها إلا "معارضة" مثل: إجراء انتخابات رئاسية مبكرة، والإفراج عن سجناء الرأي، وتحسين الظروف المعيشية للمصريين! هذا لا يعني إلا شيئا واحد، ألا وهو أن هؤلاء "معارضون" لا "ثوارا"! فهل نحن بصدد ثورة تسعى لإسقاط نظام منقلب؛ كي تعيد السيادة للشعب؟ أم بصدد معارضة تعترف بالنظام القائم، وتسعى للتفاهم معه لتحقيق مطالب معينة؟!
والحال كذلك، وإلى أن يحدد هؤلاء موقعهم من القضية المصرية، إذا كانوا معارضة أم ثوارا، فقد يكون من المفيد، أن أتوجه بخطابي إلى الجماهير المنتفضة في مصر..
أيها الشرفاء الأعزاء..
لا تتصوروا أن إسقاط هذا الانقلاب سيتم بين عشية وضحاها، فالموضوع كبير، وليس سهلا!
عليكم نسيان ما حدث في ٢٥ يناير ٢٠١١، فقد بات من المؤكد أن الجيش كان هو المحرك الأساس والرئيس لتلك الانتفاضة، من خلال صفحة "كلنا خالد سعيد".. واستجاب الشعب بكل صدق وإخلاص، وخرج، وهتف، واعتصم، وقدم شهداء، فخلع الجيش مبارك، ولم يسقط النظام؛ لأن النظام هو الجيش، والجيش هو النظام! ولو لم يستجب الشعب لنداء هذه الصفحة، لما استطاع الجيش خلع مبارك!
لكن ما فعله الجيش في ٢٠١١ شكّل (عن غير قصد) قناعة عند الشعب مفادها: إن تغيير النظام ممكن!.. في المقابل، عليكم أن تقتنعوا بأن التغيير لا يمكن أن يحدث إلا في حالتين:
الحالة الأولى: تدخل الجيش مرة أخرى! وإذا تدخل الجيش، فإن النظام سيعيد إنتاج نفسه بوجوه مختلفة، وسيدخل الشعب مع الجيش (بعد مدة تطول أو تقصر) في جولة جديدة من الصراع على امتلاك السيادة..
الحالة الثانية: أن يثور الشعب بأعداد هائلة في أنحاء البلاد، فلا يستطيع النظام مواجهتها، ولا السيطرة عليها. وبالتزامن، تتسلم قيادة راشدة السلطة من الجيش، دون قيد أو شرط، على أن يكون لديها رؤية وخطة وبرامج؛ لهدم ما تبقى من النظام البائد (وليس الدولة) وبناء نظام جديد، يحقق طموحات الشعب..
هذه القناعة لن تتشكل سريعا، بطبيعة الحال، رغم مرور سبع سنوات! لكنكم ستصلون إليها، بعد أن تعوا وتدركوا (تماما) أن التظاهر بأعداد قليلة (حتى لو اتسعت رقعته) سيتعامل معه نظام الانقلاب، باعتباره (صداعا) يمكن تسكينه بوسائل مختلفة، لا تزال متاحة.. فالصداع لن يقضي على النظام، لكن الوجع (الذي لا يمكن تحمله) سيسقطه..
عليكم أن تدركوا أيضا، أن ما حدث في "سهرة" ٣٠ حزيران/ يونيو ٢٠١٣، التي لم تستغرق سوى ست ساعات، وانتفاضة يناير التي استمرت ثمانية عشر يوما فقط، جعلتا السواد الأعظم منكم يعتقد بأن تغيير النظام ممكن أن يتم، في وقت قصير، وبأقل مجهود! هذا وعي زائف عليكم أن تتخلصوا منه فورا، فالحقيقة أن الجيش كان حاضرا بكل قوته وأركانه، في ٢٠١١ و٢٠١٣، ولولا وجود رغبة لدى الجيش في الانقلاب على مبارك والرئيس مرسي، لما حدث أيٌّ من الانقلابين..
أتموا انتفاضتكم لله، عسى أن تتحول إلى ثورة، تأتي بنظام راشد، يعيد إليكم حقوقكم غير منقوصة..
twitter.com/AAAzizMisr