في التسعينيات، ومنذ ظهور عمرو خالد وشعبيته الجارفة، كانت لدي مشكلة مع هذا النمط من الدعاة الجدد. هل يحتاج أي مسلم إلى رجل يحدثه بلغة منمقة ويغمره بحركات جسده كله ويتحكم في نظراته التي تضيق وتتسع بحساب دقيق كأنه ممثل قدير، حتى يقترب مشاهده المسلم من ربه أكثر فأكثر؟ ما علاقة هذا التمثيل بالعلاقة الروحية، الحقيقية بين أي إنسان وربه؟ لا أتصور أن تطوير علاقة المسلمين، أو غيرهم، بربهم يحتاج إلى شيء من ذلك.
لكن ذلك لم يكن مطروحا وقتها. وظل عمرو خالد ومعز مسعود بعده من مشاهير الشباب الناجحين على كافة المستويات.
بالتدريج بدأ ذلك البريق يخفت. بمعنى آخر، بدأت اختبارات ما تواجه هؤلاء الدعاة الجدد وتضعهم في موازين لم يعتادوا وزن أنفسهم من خلالها.
بالطبع يصعب أن يدعي إنسان أنه داعية يمثل الإسلام، ثم يتجاهل اتخاذ مواقف سياسية واضحة، رغم شهرته التي طبقت الآفاق؛ خاصة إذا كان كعمرو خالد، ممن أعلنوا انتماءهم إلى الإخوان في شبابه، وممن امتدحهم مدحا صريحا وهم في السلطة، ثم تبرأ منهم في عهد السيسي.
ربما تكمن مشكلة هؤلاء الدعاة هنا؛ في تلك المنهجية التي تضمن لهم كلاما رقيقا منمقا، وأداء مسرحيا مبهرا، لكن دون صدام ولا خسائر. يريد هؤلاء أن يربحوا دائما لكن ذلك صعب في ظروف كالتي نمر بها. كيف يسلم عمرو خالد من النقد بعد ظهوره مع الإعلامي خالد صلاح في سنة 2016، بعد كل ما مثله خالد صلاح والنظام المصري من معاني القمع؟ على أن ظهوره لم يكن إلا لغاية بسيطة: أن يتبرأ تماما من أي انتماء للإخوان.
ومع أن معارضة الإخوان حق للجميع، والتبرؤ من الانتماء لتنظيمهم حق لأي سياسي، لكن أمرا يحتاج للتفسير هنا: لماذا ظل عمرو يردد انتماءه السابق إليهم بفخر من قبل، ولماذا امتدحهم في مقاطع فيديو علنية، ثم شعر أمام خالد صلاح بهذا العار كله فجأة؟ هل البوصلة هي المصلحة أم الانتماء الفكري فحسب؟ حتى في حديثه مع خالد صلاح، يستنفر عمرو خالد مواهبه التمثيلية ذاتها فيضيق زاوية عينيه تارة ويوسعها تارة أخرى، ويحرك جسده على الكرسي وذراعيه في الهواء…
مع الأسف هذا غير مقنع لأحد يا سيد عمرو.
ومع مسيرة كهذه، انفجر كثير من المتابعين في وجهه بعد أن نافس الممثلين والنجوم في تنفيذ الإعلانات التجارية، فأعلن عن دجاج الوطنية وعطور عبد الصمد القرشي، وكان الفرق بينه وبين الفنانين أنه استخدم الإسلام لتبرير شراء المنتجات التي يعلن عنها.
وغير بعيد عن ذلك الداعية الوسيم معز مسعود. وهو أشهر من أن يحتاج إلى تعريف، لذلك يمكننا الاكتفاء بالإشارة إلى بعض المعلومات التي نراها مفتاحية في شخصيته وتاريخه الدعوي. ولد سنة 1978 في دولة الكويت، ويبدو واضحا أنه ينتمي لأسرة ثرية، أو لنقل لأسرة استطاعت تعليمه في الجامعة الأمريكية بالقاهرة، التي تخرج فيها سنة 2000، ولم يكن يدرس بها إلا أبناء الصفوة وقتئذ.
كان الاقتصاد تخصصه، ثم حدثت تحولات في حياته قادته إلى التخصص في طلب العلم الشرعي، ثم أصبح داعية شهيرا. بحسب الإيكونوميست في 2011، كان من أكثر خمسة دعاة تأثيرا في العالم الإسلامي.
منذ بداياته في العمل الدعوي، ارتبط بأوساط الأثرياء نسبيا، أو لنقل بالشرائح الأكثر تمكنا من الناحية الاجتماعية، فقد كان من أسباب شهرته دعوته سنة 2007 لقضاء شهر رمضان مع الجالية الإسلامية في أمريكا.
وكانت قناة اقرأ قد تعاقدت معه على تقديم برنامجين دعويين من 2002 إلى 2006 باللغتين العربية والإنجليزية؛ ما مهد لشهرته في الدول الغربية.
بالتأكيد لا يعيب أحدا أن تساعده نشأته وتعليمه الراقي، سواء كان داعية أم لا. لكن ظاهرة الدعاة الجدد تلك باتت تشغل الكثيرين الآن؛ خاصة مع ما نلاحظه حاليا من تدني شعبية بعض أهم رموزها، كعمرو خالد، ومعز مسعود بعد أن غزا ساحات السوشيال ميديا بزيجاته المثيرة للجدل.
مرة أخرى، لا أؤاخذ على الرجل الزواج بمن يشاء كما لا أؤاخذه بنشأته أو ثرائه. لكن مرة أخرى تصدمني تلك المهارة والرغبة في اللعب على جميع الحبال دون أن يتعثر الداعية أو يسقط. تزوج مسعود من زوجته الأولى سنة 2003 ثم تزوج المدونة بسنت نور الدين في سبتمبر 2017 واستمر زواجهما 179 يوما فحسب.
ثم تزوج الفنانة شيري عادل، وظل الزواج سريا حتى أعلن عنه معز في صيف سنة 2018. وكما لم يعرف أحد موعد زواجهما بدقة انفصالهما وظلت الشائعات تدور بذلك حتى أعلنته شيري في مايو 2020. وفي سبتمبر الجاري ظهرت شائعات جديدة عن زواج وشيك يجمعه بالفنانة حلا شيحة.
يحب معز اللعب والشقاوة. فبعد انفصاله عن شيري عادل، ظهر معها على السجادة الحمراء في مهرجان الجونة السينمائي، وحين سأله الصحفيون عن حقيقة انفصالهما راوغهم قائلا: "مش هاريّحكم" (لن أريحكم بالخبر). مشكلة تلك المهارة أنها لا تضمن حمايته من مواضع الزلل أيضا.
في فيديو منتشر على اليوتيوب (بعنوان: معز مسعود والحجاب) كان معز يتحدث عن الحجاب، غالبا سنة 2008، وقال صراحة إن متزوج غير المحجبة ولافتتانه بقيم الأفلام الرومانسية ولأنه يريد أن يعيش ويحب فتاة غير متدينة للإغراءات والشهوة الجسدية يتنازل عن رجولته ويصبح ديوثا.
وهذا لا يحتمل التأويل. في المقطع، نجد الإكليشيهات الدعوية ذاتها، من اصطناع التأثير على المتلقي وتغيير طبقات الصوت وهزات الرأس والذراعين.. لكن ذلك كله لم ينسِ أحدا ما أعلنه معز، ولم يصرف أحدا عن مقارنة اتهامه ذلك بزواجه من امرأة غير محجبة.
لا تكفي المهارة أبدا، لا بد من شيء من الصدق والاتساق مع النفس. كان يمكن لمعز أن يعلن مراجعة موقفه، كأن يصرح بأنه لا يصح أن نشغل أنفسنا باتهام الناس، كما لا يجوز وصم أحد بكلمة مهينة اجتماعيا لمجرد أن زوجته غير محجبة، فكل إنسان حر فيما يرتديه، ولا يجوز لأحد إهانة غيره لأنه لم يلتزم بما يراه واجبا شرعيا.
كان ممكنا أن يعلن مسعود ذلك، دون أن يقلل من شأنه، لكنه يحتاج إلى شيء من التواضع، بدلا من تدوينته الطويلة التي بذل فيها جهدا هائلا لإثبات أنه يتحدث من موقع أعلى، وأنه يواكب الزمن والتطور ويتسع أفقه، دون اعتذار واحد أو اعتراف بأنه كان مخطئا. التحدث من علٍ كان سمة واضحة في أدائه.
بذلك المستوى من الذكاء، يبرر دعاة كثيرون سكوتهم عن قتل الناس في الشوارع بأنهم غير سياسيين ولا ينبغي أن يعلنوا مواقف سياسية، لكن تأمل مواقفهم بعد ثورة يناير يكشف نقيض ذلك، فقد أسس عمرو خالد حزبا سياسيا هو حزب مصر، وعلق مسعود على أحداث سياسية متنوعة بعد الثورة.
وعلى شاكلة عمرو خالد مع خالد صلاح، صرح معز مسعود بوضوح مدافعا عن فيلمه "اشتباك" بأنه بريء من الإخوان بقوله: "ويكفي أن الهستيريين اتهموا الرئيس السيسي نفسه حين حلف اليمين وزيراً للدفاع أنه من الإخوان.. كما اتهموا اللواء محمد إبراهيم وزير الداخلية الأسبق بذلك.. كفانا هستيريا". هكذا يضع الرجل نفسه في كفة السيسي ومحمد علي إبراهيم.
في تقديري، هذا ما جعل هذه النماذج من الدعاة غير مقنعة لكثيرين من الشباب بعد أن كانوا من أيقوناتهم يوما.