حين نطقت الأكاديمية السويدية باسم الشاعرة الأمريكية لويز غليك Louise Glück معلنة منحها جائزة نوبل للآداب لهذا العام، لم يكن اسم غليك معروفاً لدى القارئ العربيّ حتى المتخصص، ففيما عدا مجموعة يتيمة من مختارات شعرها صدرت عام 2009 تحت عنوان "عجلة مشتعلة تمر فوقنا"، لا نكاد نجد أثراً يذكر لهذه الشاعرة أو لقصائدها.
ليس في ذلك ما يعيب القارئ العربيّ أو ما يقلل من شأن الشاعرة بطبيعة الحال، لولا أنّ عدداً لا بأس به من المعلّقين العرب –وربما غيرهم- هاجموا قرار الأكاديمية السويدية، إذ رأوا أنّ الأكاديمية تنحاز إلى المركزية الأوروبية والأمريكية في اختياراتها. وفي رأي هؤلاء أنه كان بوسع الأكاديمية أن تجد عدداً كبيراً من الشعراء عبر الكوكب ممن يستحقون جائزتها ولا يقلون أهمية عن الشاعرة الأمريكية التي منحت الجائزة لأنها -بحسب رأيهم- "أمريكية بيضاء"!
والغريب أنّ معظم هؤلاء المعلقين يعترفون بأنّهم لم يطلعوا على أعمال غليك، مغفلين سيرتها الذاتية التي تحفل بسلسلة طويلة من التكريمات من جهات عريقة وجوائز رفيعة، مثل جائزة بوليتزر للآداب (1993) والجائزة الوطنية للكتاب (2014)، وجائزة بولينغن للشعر، وجائزة الشاعر والس ستيفنسن، وميدالية العلوم الإنسانية الوطنية في بلدها، وقضت نحو عام في موقع شاعر أمريكا المتوج 2003-2004، وهو ما يشبه شاعر البلاط في ثقافتنا العربية.
ولكنّ قرار الأكاديمية، بغضّ النظر عن هذا الجدل القليل الجدوى في ظنّي، باعث على الفرح لمحبّي الشعر: فعودة نوبل إلى الشعر بعد غياب تسع سنوات إذ كان آخر شاعر حصل عليها هو السويدي توماس ترانسترومر؛ واختيار شاعرةٍ للفوز بالجائزة؛ وأن يكون من أسباب الفوز في رأي لجنة نوبل دور الشاعرة في إبراز موضوعات "الطفولة والحياة الأسرية، والعلاقة الوثيقة مع الوالدين والأشقاء"، كل هذه أسباب تبعث على الابتهاج، وتحث على قراءة شعر الشاعرة المتوجة، بالأخص في هذه السنة العائلية بامتياز!
للويز غليك، المولودة سنة 1943 في نيويورك، اثنتا عشرة مجموعة شعرية منذ مجموعتها الأولى "البِكر" (1968) حتى مجموعتها الأخيرة "ليلة مخلصة فاضلة" (2014)، إضافة إلى مجموعة مقالات، وكتاب نقدي بعنوان "براهين ونظريات" (1995).
منذ مجموعاتها الأولى "البكر" و"منزل مارشلاند" و"الحديقة"، تأخذ قصائد غليك -كما يشير الدارسون- القارئ في رحلات داخلية تستقصي خلالها أعمق المشاعر وأكثرها حميمية، بأسلوب قريب وقدرة عالية على تأليف الشعر البسيط الذي يمكن لجميع الناس فهمه والارتباط به وتجربته، دون أن يقلل ذلك من عمق فكرها وأصالة صوتها الشعري.
تقع موضوعات الأسرة والعلاقة الزوجية في قلب تجربة غليك الشعرية، حيث يصبح الشعر امتداداً للسيرة الذاتية، وهو ما أشارت إليه أكاديمية نوبل في ذكرها أنّ من أسباب منح غليك الجائزة "صوتها الشاعري المميز الذي يضفي بجماله المجرد طابعاً عالمياً على الوجود الفردي". أما خيبة الأمل، والهجر، والفقد، والعزلة والتأمل في تقدّم العمر والشيخوخة والموت فهي ثيمات غليك الأثيرة. إنها كما يصف بعض النقاد "شاعرة عالم ينهار"، لذلك ليس مستغرباً أن يصف البعض شعرها بالقتامة والسوداوية. لكنّ قصائدها رغم ذلك لا تبعث على الكآبة على الإطلاق، فهي نصوص ذكية تجيد التقاط المفارقات في علاقاتنا البشرية، وتقاربها بروح من التفهم والتسامح. تنقل غليك انهيار العوالم الفردية بهدوء وبساطة، عبر نصوص هامسة تحتاج الكثير من الإنصات إلى فجوات الصمت فيها.
في قصيدة "الحديقة" من المجموعة التي تحمل الاسم ذاته (وترجمة كاتب السطور)، تراقب الشاعرة زوجين في باكورة زواجهما:
في الحديقة، تحت المطر الخفيف
يزرع الزوجان الشابّان
صفّاً من البازلاء،
رغم أنّ أحداً منهما لم يسبق له فعل ذلك قطّ
الزوجان الشابان هنا منهمكان في تجربة لم يسبق لهما أن خاضاها، هي في ظاهر الأمر تجربة زراعة بذور البازلاء، لكنها في العمق تجربة وضع بذور علاقتهما الأولى في التربة. وهما يبدوان مستمتعين بهذه التجربة الجديدة، لكن فجأة يتغير المشهد تحت المطر الخفيف، فترى الشاعرة الزوجين:
لا يستطيعان رؤية نفسيهما،
في الطين الطازج، يبدآن
من غير معرفة،
التلال من خلفهما خضراء شاحبة،
غائمة بالورود-
هي تريد أن تتوقف؛
وهو يرغب أن يواصل إلى النهاية،
أن يستمر في الأمر-
هنا تبدأ ملامح الخلاف بين الزوجين: فالزوجة الشابة وقد اتسخت بالطين ترغب في التوقف عن زرع بذور البازلاء، أما الزوج فيرغب في الاستمرار. والشاعرة تراقب المشهد وتلتقط بمهارة بذور الخلاف الأولى بينهما، فترصد حركة يد الزوجة وهي تلاطف الزوج لتقنعه برأيها في التوقف عن الزراعة:
انظر إليها، تلمس خدّه
حتى تصنع هُدنة، أصابعُها
باردةٌ مع مطر الربيع؛
في العشب النحيل، ورشقات الزعفران الأرجواني-
حتى هنا، حتى في بداية الحب،
فإنّ يدها وهي تغادر وجهه رسمتْ
صورة للرحيل
هذا النحو من بساطة التعبير ومباشرته، والاستعانة بمشاهد الحياة اليومية للتأمل في العلاقات هو أسلوب غليك المفضل. وتبلغ الشاعرة ذروة هذا الأسلوب التصويري في مجموعتها "الحدقة المتوحشة" (1992) الحائزة على جائزة بولتزر للآداب بعد عام من صدورها.
في مجموعتها "أرارات" (1990) تواصل غليك تتبع العلاقات الزوجية من خلال حياة أبيها الفارغة وأمها العاجزة عن التعبير عن مشاعرها. والمجموعة مليئة بقصائد الفقد وحكايات الأرامل دون أن تغيب عنها نبرة السخرية الفادحة. تقول في قصيدة "قشتالة":
"براعم البرتقال تملأ سماء قشتالة
أطفال يتسولون القروش
التقيت حبيبي تحت شجرة برتقال
أم لعلها كانت شجرة أكاسيا،
أم لعله لم يكن حبيبي؟"
(لويز غليك، عجلة مشتعلة تمر فوقنا، اختارها وترجمها سامر أبو هواش، دار كلمة ومنشورات الجمل، 2009، ص 106).
فالعلاقات محكومة بالاحتمالات والتحولات، ويتساءل من ينظر إليها من بعيد هل كانت حقيقية أم مجرد أوهام؟
***
في مجموعاتها التالية "المروج" و"الحياة الجديدة Vita Nova" و"الجحيم Inferno" تستعين غليك إضافة إلى السيرة الذاتية بالأساطير القديمة، وتوسّع منظورها وأدواتها الفنية لكن مع الاحتفاظ بالثيمة الأساسية الأثيرة لديها التي تدور حول التأمل في العلاقات الإنسانية وتحولاتها.
ففي "المروج" (1994) تعيد غليك حكاية الأوذيسة وتستعير صوتيْ عوليس وبنيلوب لاكتشاف تحولات الحب في ازدهار الزواج وانهياره. لا ترحل غليك وراء عوليس الهائم في الزمن، لكنها تأتي به وبكل ما في رحلته إلى زماننا الحالي. في قصيدة "المروج 1" تقول الزوجة:
"أتمنى لو نذهب في نزهات
مثل ستيفن وكاثي...
انظر إلى سعادة كلبهما "كابتن"
انظر إلى مدى انسجامه مع العالم. ألا يعجبك
كيف يقعي على المرجة محدقاً بالطيور في الأعلى؟
يحسب أنها لا تراه لأنه أبيض.
أتعرف سر سعادتهما؟ أنهما
يصحبان الأطفال في نزهات. أتعرف
لماذا يصطحبان الأطفال في نزهات؟
لأن لديهما أطفالاً"
(في الأصل "أطفال". عجلة مشتعلة تمر فوقنا، ص 152-153).
هذه الرغبة البسيطة في إقامة حياة أسرية عادية، وإنجاب أطفال، واصطحابهم في نزهة مع كلب مرح، تكاد تكون منتهى السعادة كما تراها لويز غليك وتطلبها بصمت كما يفعل كثير من النساء والرجال في عصرنا. فهل يمكننا النظر لفوز غليك بنوبل على أنه احتفاء بالبساطة الإنسانية في زمن التعقيد، ووقفة للتأمل في معاني الحبّ والقرب والفقد في سنة الجائحة؟
رواية دم الثور لنزار شقرون: تاريخ افتراضي لكتاب ابن المقفع
رواية "أرض الله".. عبودية الروح وحرية الجسد