الكتاب: الثورة الفلسطينية الكبرى (1936 ـ 1939).
المؤلف: د. محمد علي حُلَّة.
الناشر: الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، سلسلة "تاريخ المصريين" 2018.
مثَّلت ثورة 1936 الحركة الوطنية الفلسطينية، وقد اكتمل نضجها، بعد طول تخبُّط، على مدى المرحلة الأولى من حياة تلك الحركة (1918 ـ 1926)، والتي اتسمت باحتكار كبار الملاك لقيادتها؛ فأوقعوها في صدامات طائفية، مع العدو الصهيوني (1920، 1921، 1924)، واعتبر أولئك الملاك الاستعمار البريطاني وسيطًا بين الحركة الوطنية، والصهاينة، كما اعتمد كبار الملاك أشكال كفاح بائسة، لم تتعد المؤتمر، والبيان، والوفد، الذي يتجه تارةً إلى حكومة لندن، وتارة إلى المندوب السامي البريطاني في القدس، متسوِّلةً حلًا للقضية الوطنية. ولكن هيهات!
إلى أن جاء العام 1929، بعد أن استعصى على الحركة الوطنية عقد مؤتمرها السنوي، طيلة السنوات الست (1922 ـ 1928)، وبعد أن قررت "الوكالة اليهودية" توسيع عضويتها، لتشمل اليهود غير الصهاينة، وبعد أن اجتاح الجراد، والطاعون، فلسطين، ثم وصلت الأزمة الاقتصادية العالمية إلى فلسطين، فبل سنة من ظهورها في أرجاء العالم (1928 ـ 1932). فكانت هبَّة البُراق، صيف 1929، التي امتدت إلى مدن فلسطينية عدة، وشملت معظم الطبقات الاجتماعية العربية الفلسطينية، واستمرت لنحو أسبوعين، وسقط فيها ما فاق مجموع ما سقط في الصدامات الثلاثة السابقة مجتمعة، من قتلى وجرحى، من الطرفين، العربي والصهيوني.
في هذه الهبَّة، تأكد للجماهير العربية الفلسطينية، مدى عُقم الأساليب الكفاحية التي فرضتها قيادة كبار الملاك، ومدى تضليل أولئك القادة في منح دور الوسيط للاستعمار البريطاني، في وقت كانت البرجوازية الفلسطنية قد شبَّت عن الطوق، وجاء تأسيسها البنوك (العربي، والزراعي العربي، والصناعي العربي)، أواخر عشرينيات القرن العشرين، ليعكس مدى تطوُّرها كما أُلحقت تلك البنوك بتأسيس البرجوازية أحزابها السياسية، على مدى النصف الأول من الثلاثينيات (مؤتمر الشباب، الكتلة الوطنية، الإصلاح، والاستقلال، بينما، ظل "العربي" معبِّرًا عن عائلة الحسيني، في حين مثَّل "الدفاع" عائلة النشاشيبي، المنافسة للحسيني).
بذا تأهلت البرحوازية للدخول شريكا في قيادة الحركة الوطنية، على مدى الثلاثينيات؛ بقوة اتكائها على الحركتين، العمالية والفلاحية، وبقوة برنامجها السياسي، الذي اعتبر الاستعمار البريطاني "أُس البلاء"؛ أما الصهاينة فمجرد ذيل له؛ ما جعل تلك البرجوازية تُشهر أشكالًا كفاحية صدامية.
أما ثورية البرجوازية، آنذاك، فعادت إلى: أولًا كونها بلا مخالب، أو أنياب، ولم تزل في بداية عمرها، وثانيًا، فلأنها كانت تتوق لاستقلالها بسوقها المحلية، وثالثًا فلوقوعها تحت الضغط المزدوج، البريطاني ـ الصهيوني، وأخيرًا فلانقطاع صلتها بالسوق الرأسمالية العالمية.
عمدت هذه البرجوازية إلى تجربة سلاح الصدام، في انتفاضة تشرين الأول/ أكتوبر 1933، وفيها سالت دماء كثيرة، ووقع العديد من قادة الحركة الوطنية، وكوادرها أسرى المعتقلات، والسجون؛ فلبدت البرجوازية، تُعيد النظر، إلى أن فاجأ الشيخ عز الدين القسام الجميع بجركته المسلحة (12 تشرين الثاني/ نوفمبر 1935)، وإن وُئدت في المهد، بعد أسبوع واحد من انطلاقها. لكن عناصر قسامية سرعان ما أشعلت ثورة 1936 المسلحة، وهي ثورة وطنية ديمقراطية؛ شعارها الأرض والحرية، كما أن الطبقات التي شاركت في هذه الثورة عززت هذا الطابع.
بدأت هذه الثورة بأطول إضراب سياسي في تاريخ البشرية. (20/ 4 ـ 12/ 10/ 1936)، ولم يتوقف هذا الإضراب، إلا بنداء من الملوك، والأمراء العرب، إلى الشعب العربي الفلسطيني، كي يُنهي إضرابه، معتمدًا على "حُسن نوايا صديقتنا بريطانيا"! وكان بيان المناشدة من تحرير المندوب السامي البريطاني في القدس، آرثر واكهوب، وقد حمَّله إلى عبد الله بن الحسين، أمير شرق الأردن، الذي ادعى بأنه من كتب هذا البيان!
ما أن توقف الإضراب، حتى ردَّت حكومة لندن بإصدار تصاريح لنحو 1800 يهودي، كي يهاجروا إلى فلسطين، ويستقرُّوا فيها (5 / 11 / 1936)؛ ما استفز قيادة الثورة، فقرَّرت مقاطعة لجنة "بيل" الملكية البريطانية، التي وصلت إلى البلاد، بعد نحو شهر من توقف الإضراب. هنا، أعاد الملوك، والأمراء العرب تدخلهم لدى قيادة الثورة، فرضخت، وتراجعت عن مقاطعة اللجنة الاستعمارية!
***
عن هذه الثورة المجيدة، جاء كتاب د. محمد علي حُلَّة، رحمه الله، والكتاب، في الأصل، أُطروحة دكتوراه، نال عليها صاحبها درجة الامتياز مع مرتبة الشرف الأولى. وقد سبق للمؤلف أن نشر 15 كتابًا، في التاريخ، الحديث والمعاصر، لعل أهمها عن والي مصر، محمد سعيد باشا، ومصر وجامعة الدول العربية، والأزهر في الأرشيف المصري، وموقف الولايات المتحدة من الوحدة العربية.
تضمن الكتاب دراسة تفصيلية عن الثورة، اعتمادًا على: وثائق الخارجية البريطانية، وتقارير الانتداب البريطاني في فلسطين إلى حكومة لندن، فضلًا عن مضابط مجلس العموم البريطاني، ووثائق الخارجية الأمريكية، ناهيك عن كتابات المؤلفين الفلسطينيين، الذين عاصروا الثورة، وشاركوا فيها، أمثال: محمد عزة دروزة، وأكرم زعيتر، وإميل الغوري، ومذكرات رأس الحركة الوطنية الفلسطينية، على مدى ثلاثينيات، وأربعينيات القرن العشرين، الحاج أمين الحسيني. دون أن يُغفل المؤلف مذكرات ساسة عرب، كان لهم دور ملموس في الثورة، إلى مذكرات حاييم وايزمان، رأس الحركة الصهيونية، وأول رئيس للكيان الصهيوني، وديفيد بن غوريون، ونورمان بنتويتش، إلى الأطروحة الموسوعية عن "الحركة الوطنية العربية الفلسطينية"، للكاتب الصهيوني، يشعياهو بن بوراث، فضلًا عن الجريدة الرسمية الفلسطينية، ودوريات عربية وعبرية أخرى.
بدأت هذه الثورة بأطول إضراب سياسي في تاريخ البشرية. (20/ 4 ـ 12/ 10/ 1936)، ولم يتوقف هذا الإضراب، إلا بنداء من الملوك، والأمراء العرب، إلى الشعب العربي الفلسطيني، كي يُنهي إضرابه، معتمدًا على "حُسن نوايا صديقتنا بريطانيا"!
تتبع المؤلف خطوات الصهيونية، في سبيل تحقيق أهدافها بفلسطين، قبل أن يوفر حُلة خلفية تاريخية للثورة، منذ استكمال القوات البريطانية احتلالها لفلسطين، واجتزاءها من الجسم السوري (أيلول/ سبتمبر 1919)، إلى عشية اندلاع الثورة. قبل أن ينتقل للحديث عن الثورة نفسها، في مراحلها الثلاث، ملقيًا حزمة من الأضواء على "لجنة بيل"، التي أصدرت تقريرها (7 / 7 / 1937)، موصيةً بتقسيم فلسطين، بين العرب واليهود، مع إبقاء منطقة القدس تحت الحكم البريطاني. ما فجَّر المرحلة الثانية من الثورة، والتي اتسمت بحوادث اغتيال كبار المسؤولين البريطانيين، ما أجبر حكومة لندن على إيفاد "لجنة وودهيد" الفنية؛ كي تعيد النظر في "تقرير بيل"؛ فأوصت الأولى بإلغاء توصية التقسيم، لكن الثورة استمرت، غير عابئة بمجاولة الاحتواء البريطاني تلك.
على أن الثورة أخذت في التراجع المطرد، بعد أن ضاعفت القيادة البريطانية حجم قواتها المسلَّحة في فلسطين، وبعد أن أخذت الأسلحة، والذخائر تتناقص في أيدي الثوار، وقُتل أو أعتُقل عدد كبير من قادة الثورة المقاتلين. وحين لاحت سحب الحرب العالمية الثانية في الأفق، عمدت حكومة لندن إلى دعوة الدول العربية، والحركة الوطنية الفلسطينية، و"الوكالة اليهودية"، إلى "مؤتمر لندن"، الذي انعقد في شباط/ فبراير 1939، لكنة عجز عن الوصول إلى تسوية؛ فعاجلت حكومة لندن الجميع بإصدار "الكتاب الأبيض"، في أيار/ مايو 1939، وتضمن وعدًا بوقف الهجرة اليهودية إلى فلسطين، ومنح فلسطين استقلالها؛ ما أزعج قادة الصهيونية، وقال بن غوريون قولته الشهيرة، مع اندلاع الحرب: "سنقاتل إلى جانب بريطانيا، وكأن الكتاب الأبيض لم يصدر، وسنحارب الكتاب الأبيض، وكأن الحرب العالمية لم تندلع". بينما لم تبتلع الثورة الفلسطبنبة الطُعم، فرفضت هذا الكتاب.
***
هذا الكتاب مرشح للقراءة من قِبل كل من أراد الإلمام بتفاصيل تلك الثورة المباركة، مع الاطلاع على بقية الكتب عن هذه الثورة، التي لم يستعن بها المؤلف. مع ملاحظة أن حُلة وقع أسير الوثائق الأجنبية التي استعان بها؛ فالحركات الثورية هي عنده مجرد "اضطرابات"، أي أمراض! بينما تتوزع الحركات الشعبية ما بين الإضراب، والمظاهرة، والهبَّة، رد الفعل الشعبي العفوي على ما اقترفه الأعداء، والانتفاضة، التي جرى ترتيب الفرق الثورية لها، مع برنامج سياسي، وشعارات، وأهداف، إلى الثورة التي ترمي إلى إجراء تغيير جذري، ولا تكتفي بتغيير الأشخاص، أو التنفيس عن الجماهير. كما أن المؤلف اعتمد 25 نيسان/ أبريل 1936، تاريخًا لبدء الثورة، بينما الصحيح هو 20 نيسان/ أبريل، فضلًا عن قوله بأن إميل الغوري هو أول مندوب لفلسطين في "جامعة الدول العربية" (1946) بينما الصحيح أن موسى العلمي هو أول مندوب لفلسطين في تلك الجامعة. وتصلح قصة مندوبيته للنشر هذه الأيام، لعل وعسى!
مكونات الحضارة الأوروبية.. والطريق إلى الحقيقة
هل حرق الكتب أو اغتيال الكُتاب يقتل أفكارهم؟ (1من2)
كتاب في مزاعم الإرهاب الإسلامي والمشروع الحضاري للمنطقة