خلال إحدى مبارياتها الحاسمة، تلقّت لاعبة التنس الألمانية الشهيرة "شتيفي غراف" عرضا بالزواج من أحد المعجبين؛ وكانت في قمة تركيزها الذهني، وهي تتخذ وضعية الاستعداد لإرسال الكرة، وهي اللحظة التي يُطبق فيها الصمت على الملعب، ويُحظر فيها على الجمهور إصدار أي صوت.
كسَرَ الصوتُ الصادر من المدرّجات حدة التوتر المسيطر على أجواء المباراة، وأثار موجة لطيفة من الضحك في الجمهور، سرعان ما انتهت لتفسح المجال لردة فعل اللاعبة الحسناء.
ولم تتأخر "غراف" في التقاط حس الدعابة الرومانسية السارية في الجمهور، فأرختْ مضربها، واسترختْ أعصابها المشدودة، وتخلّت عن تركيزها في الضربة المقبلة، وارتسمت على وجهها ابتسامة خجولة، ووجهت كلامها للمعجب من دون أن تعرف مكانه بين الجمهور: "كم تملك من النقود؟" لتنطلق بعدها موجة ثانية من الضحك في الجمهور، أعلى من الأولى، ومصحوبة بالتصفيق، لثوان معدودة، يسود بعدها الهدوء التام، وتعود اللاعبة إلى وضعية الاستعداد.
هذا النوع من التفاعل الشخصي المباشر بين الملعب والمدرجات، لا نجده في أي رياضة غير رياضة التنس الأرضي، أو كرة المضرب كما يطلق عليها عربيا.
الجمهور في رياضة التنس الأرضي جزء من اللعبة نفسها، ومن قوانينها القائمة على حبس الأنفاس من كل فرد في المدرجات ما دامت الكرة متداولة بين اللاعبَين داخل إطار الملعب. وبمجرّد خروجها عن الخط ينفجر الجمهور بالتصفيق والهتاف وصيحات التشجيع، أو تقديم عروض الزواج إذا شاء.
الجمهور في رياضة التنس، يتقن لعبة "الخفاء والتجلّي"؛ فيختفي خلال اللعب، ويظهر بعده. ويعرف كل فرد جالس في المدرجات أن صمته يضمن استمرار اللعبة، وأن أيّ صوت يُسمع خلال تداول الكرة كفيل بتشتيت تركيز اللاعبَين وقطع اللعبة، وهو مخالفة لا يجرؤ أي فرد في المدرجات على اقترافها.
يلعب الجمهور دورا أساسيا في عموم الرياضات، الجماعية منها والفردية، ويعوّل اللاعبون، فِرَقا وأفرادا على تشجيع الجمهور في الدعم المعنوي وإثارة الدافعية. ولولا الظروف الاستثنائية العجيبة التي فرضتها جائحة الكورونا على الرياضات هذا العام، لما كان لنا أن نتخيل مباراة تجري بين جنبات مدرجات شاغرة.
ولكل الرياضات آداب وأعراف تحكم العلاقة بين المدرجات والملعب، وتقنّن أشكال التشجيع، فتمنع العنف بين المشجعين والعبارات المسيئة والعنصرية، وتعزز أشكال التشجيع الجماعي، من مثل ارتداء قميص الفريق، أو رفع الرايات والأعلام، أو إطلاق الهتافات الجماعية الحماسية، أو تنسيق الحركات على شكل أمواج متحركة، أو استخدام الطبول والمزامير، إلى آخره من تفانين التشجيع المحبذة من غير قيود تحكم حرية الحركة والكلام.
وحده جمهور التنس الأرضي ملزم بحبس أنفاسه، وتأخير ردود أفعاله وانفعالاته، وضبط إيقاع التشجيع على هوى الكرة الصفراء المطاطية، ذات السرعة الهائلة، والارتداد الشديد، الذي يحوّل المشاهدين في المدرجات إلى قطيع من البطاريق أو حيوانات المرموط، تدير رؤوسها يمينا ويسارا في حركة جماعية موحَّدة.
تتفرّد لعبة التنس الأرضي من بين الرياضات بأنها تجتمع فيها حاستا البصر والسمع لتحقيق المتعة للجمهور، فليست مشاهدة حركات اللاعبّين وحدها ما يحقق المتعة، وإنما سماع أصواتهم أيضا؛ والزمازم المكتومة والمنفجرة الصادرة من أفواه اللاعبين، المصاحبة لكل ضربة قوية، وانعطافة شاقّة، وانحناءة سريعة، تفرضها عليهم ارتدادات الكرة السريعة.
يحصي الجمهور أنفاس اللاعبِين وشهقاتهم الحارّة، ويحفظون الزمزمة الخاصة بكل لاعب ولاعبة بوصفها علامة مسجلة، ويقدّرونها ويطربون لها، ويقيسون بشدتها مقدار الجهد المبذول في اللعبة، ويربطون بينهما وبين براعة الحركة، وقوة الضربة، ويحققون أقصى المتعة من هذا الهارموني الصوتي الحركي.
حالة التوتر والتركيز والجهد البدني الكبير من جهة اللاعبَين، وحالة الانتباه لكل حركة وصوت من جهة الجمهور، لا تستمر أكثر من دقيقة أو دقيقتين؛ الزمن الكافي لحسم النقطة لمصلحة أحد اللاعبَين. ترتخي بعدها الأعصاب في الملعب والمدرجات، ويعلو ضجيج الإعجاب والتشجيع، ويلتقط اللاعبان الأنفاس استعدادا لإرسال جديد.
لعبة التنس غير مرتبطة بزمن محدد، فقد تنتهي في ساعة من الزمن، إذا كان المتنافسان غير متكافئين، وقد تمتدّ لأربع ساعات إذا كانا ندّين. وهي من هذه الناحية تشبه لعبة الكرة الطائرة في اعتمادها على نظام النقاط والأشواط، وليس على الزمن المحدد مسبقا.
يسمح هذا النظام للكفاءة وحدها أن تحدد الفائز في المباراة، ولا يمكن التشكيك في تفوق اللاعب الفائز، أو عزو فوزه إلى ضربة حظ، أو خطأ غير متوقع، كما يحدث كثيرا في رياضة كرة القدم. ولأن التنس رياضة فردية، فلا يمكن إلقاء اللوم في الخسارة على الآخرين.
وتتميّز لعبة التنس الأرضي بالحساسية الشديدة، فقليل من زخّات المطر في طقس بطولة "الويمبلدون" البريطانية المتقلّب، كفيل بإيقاف المباراة وسحب البساط فوق الملعب، ورفع المظلات في المدرجات. وإصابة لاعب بتشنج عَضَليّ تعني إنهاء المباراة، فلاعب التنس أثمن من أن يستبدل بلاعب آخر.
الفائز في مباراة التنس هو دائما يستحق الفوز، والخاسر يستحق الخسارة. وتفقد اللعبة الكثير من روح العدالة فيها حين تكون زوجية، لأن اللاعب الماهر في الفريق الزوجي، قد لا يتمكن من سدّ الثغرات في أداء شريكه الأقل مهارة.
وحين يتواجه في مباراة التنس أستاذان كبيران من أصحاب المراكز الأولى في التصنيف العالمي، تبلغ المنافسة حدودها القصوى، وتُنْسي المتعةُ الجمهورَ طول زمن المباراة، ويلغون ارتباطاتهم الأخرى في ذلك اليوم.
يطول زمن الشوط أو يقصر، ويعقبه زمن للراحة والتقاط الأنفاس، وخلال ذلك يمكن لسيدة فقدت طفلتها بين مقاعد المدرّجات أن تبحث عنها، ويهبّ الجميع لمساعدتها، جمهورا ولاعبين، ولا يُستأنف اللعب حتى تعود الطفلة الضائعة إلى أمها وسط تصفيق الجميع، وتسمع الأم الملهوفة عبارة طمأنة من اللاعب الكبير، وتعتذر من الجميع عمّا سببته لهم من إرعاج، وتشكرهم على تعاطفهم، وتعود إلى مقعدها بين أفراد العائلة الكبيرة التي يجمعها ملعب التنس.
وقبل أن يرسل اللاعب الكبير الكرة، يتلقى عرضا بالزواج من معجبة، فيبتسم اللاعب، ويشير بيده إشارة تعني أنه مرتبط بامرأة أخرى، ويضج الجمهور بضحك لطيف، ثم يحبس أنفاسه جماعيا، مثل صفّ من البطاريق يراقب عبور سمكة سريعة.