قل هو من عند أنفسكم
تتعدد وتتنوع الأزمات بين شكلية وبنيوية، وأزمة سطح وأزمة عمق، وأزمة حديثة عارضة، وأزمة تاريخية ممتدة، وأزمة بسيطة وأزمة مركبة. وأزمتنا الإسلامية بنيوية وعميقة وتاريخية ممتدة ومركبة، نتجت وما زالت تنتج عنها ظواهر متعددة هي في حقيقتها أزمات فرعية متجددة ناتجة عن الأزمة الأم الأصلية.
وكذلك تتنوع أشكل التعاطى مع الأزمات؛ بداية من عدم الاعتراف إلى الهروب، أو استخدام المسكنات إلى التهوين والانحراف، إلى الشجاعة في التعاطى معها ومواجهاتها بالحق، الأحق أن يتّبع.
في هذا السياق نؤكد على أن التكبر والعناد عن الاعتراف بالأزمة دليل غياب وعي، والاعتراف بالأزمة مع التسويف والهروب إلى الأمام بالتبرير واستخدام نظرية المؤامرة ضعف وإفلاس، ومواجهة المشكلة باستخدام المسكنات ليس حلا، والتهوين والانحراف عن بوصلة وجادة المشكلة مراوغة وتضييع للأمانة..
والوعي والاعتراف بوابة الحل، والنقد والتقويم مفتاحه، وفيه سبيل إنقاذ الأمة من أزمتها، التي تحتاج إلى جراحة فكرية شجاعة وعميقة، تتطلب مهنية فكرية عالية، وجرأة في الحق لا تلين ولا تستكين وعلى استعداد لتحمل تكلفة الجراحة المؤلمة.
وتنقسم أزماتنا الإسلامية إلى مستويين؛ أساسية وتابعة:
أولا: أزماتنا الأساسية
1- غياب الوحدة السياسية، ويقصد بها غياب دولة أو مجلس دول أو جامعة دولة تمثل المسلمين تمثيلا سياسيا يمكن التحدث بها رسميا ودوليا، وذلك منذ سقوط الخلافة الإسلامية والتي كانت تمثل آخر وحدة سياسية ممثلة للمسلمين في العالم، مما سبب فراغا كبيرا شاغرا فتح الباب أمام حالة فوضى عارمة وتفكك وضعف وشتات للمجتمعات والشعوب الإسلامية.
2- غياب المرجعية الفكرية الواحدة التي تتحمل مسؤولية إنشاء مجامع علمية متكاملة من العلوم الإنسانية والكونية المختلفة، لتشغيل الماكينة الفكرية للتحديث والتجديد الفكرى لمقاصد وقيم ومفاهيم وتشريعات الإسلام، ورسم خرائط تطبيقاته الحضارية المعاصرة في كافة مجالات الحياة، ومن ثم إعادة الإسلام إلى واجهة التأثير في الحياة اليومية لحركة حياة الناس، وتقديم نموذج معاصر للدعوة الذاتية للإسلام ومنبر علمي حضاري عالمي يرتقي للتحدث باسم الإسلام، وقطع الطريق على الجمود والفرقة الفكرية وحالة الفوضى التي يعيشها المسلمون اليوم.
3- أحادية وعزلة وجمود مناهج تعليم الدين عن العلوم الإنسانية دائمة التحديث والتطوير بفعل الحراك المجتمعي، والجهود العلمية للباحثين والخبراء، مما تسبب في إنتاج أجيال من علماء وممثلي ومعلمي الدين جامدة ومتقادمة فكريا، لا تحسن تمثيل وعرض وتعليم الدين إلا من أبوابه الفقهية والشعائرية الفردية البسيطة، البعيدة عن الفكر والفعل والباب الحضارى للدين في صناعة وتطوير حركة الحياة.
4- الجمود والتخلف التربوى الذي أصاب صناعة الإنسان والمجتمع المسلم بسبب غياب امتلاكنا لأهم الصناعات الثقيلة في العالم (صناعة القيم والهوية والمعنية بإنتاج الإنسان والمجتمع الحضارى، وإدارة وتحسين جودة السلوك والأداء والإنجاز البشري)، هذا الغياب الذي تسبب في تشوه وضعف المنتج البشرى الإسلامي، والذي أصبح يخرج للعالم محملا بنظام أفكار دينية مشوه ومرتبك ومتناقض ومغشوش، أنتج أجيالا من العباد المزيفين غير العقلانين، المتناقضين في أقوالهم وأعمالهم العاطفيين العشوائين الكسالى المستهلكين المتعالين على الناس والمعادين للعالم، نتيجة لعدم وجود صناعة متكاملة للقيم والهوية مسؤولة عن صناعة وتطوير مفاهيم القيم وتطبيقاتها السلوكية المعاصرة في حياة الناس وتربيتهم عليها وتحويلها إلى نمط وثقافة حياة حضارية.
5 - الاستبداد العسكري الأجنبي ثم العسكري المحلي المسيطر على حكم المنطقة العربية منذ قرن ونصف من الزمان، والذي أفسد كل شيء وجمد كافة عمليات التنمية، وحارب كافة محاولات الإصلاح، ودمر الأخضر واليابس. وأخطر ما صنع هو التمكين لثقافة الاستضعاف والهزيمة والعبودية والاستسلام، وصنع لها فقها دينيا مزيفا على يد علماء دين مزيفين ساهموا في تمكين الاستبداد وطول فترته حتى الآن.
6- اتساع الفجوة الحضارية مع العالم في شتى مجالات الحياة العلمية والتكنولوجية والاجتماعية والاقتصادية والعسكرية والسياسية، والذي جعل من الدول العربية (قلب العالم) إلى جزيرة منعزلة خارج سياق العصر، وسوق منعزل عن العالم إلا لتسويق أفكار ومنتجات الغير. وبمرور الوقت مع التطور التكنولوجي السريع تتسع الفجوة حتى تحولت أزمة الفجوة مع العالم من أزمة تابعة إلى أزمة بنيوية أساسية؛ تحتاج إلى الكثير من الوقت والعمل لتجسيرها واللحاق بالعالم.
ثانيا: أزماتنا التابعة
في ظل غياب دور الأنظمة الحاكمة للدول وواجبها في تجديد الفكر الإسلامي، وتعليم وإعداد وتأهيل الدعاة المدربين لحمل رسالة الإسلام للناس وتربية وتعليم المجتمعات على تعاليم الإسلام، حاول الأفراد المصلحون وجمعيات العلماء والتنظيمات الدينية سد هذا الفراغ الشاغر، وهو جهد مشكور ولكن غير كاف لغياب المؤسسية العلمية الدائمة، كما اعتراه خلل غياب التراكم والتكامل، وانحراف البوصلة إلى العمل السياسي والمنافسة على السلطة ومحاولة تسيّد المجتمع، ومن ثم جاءت فاعليته ونتائجه محدودة مقارنة بما بُذل من جهود وما مر من تاريخ.
1- غياب التكامل والتراكم الإصلاحى وتشتت وغياب بوصلة التنظيمات الإسلامية بتحليل عنصرى التكامل والتراكم في تاريخ حركة الإصلاح العربي منذ بداية الأفغاني 1860، والتي بدأت في شكل جهود فردية متتالية لكل من الأفغاني ثم الكواكبي ثم محمد عبده ومحمد رشيد رضا وبن باديس 1940، حتى تحولت إلى كيان مؤسسي على يد حسن البنا بتأسيس جماعة الإخوان المسلمين والتي امتدت حتى الآن، والتي ظهر فيها غياب عنصر التكامل بين مكونات العمل الفكري والخططي والتنفيذي، كما لم يظهر فيها أيضا عنصر التراكم الفكري والخبراتي، حيث تبدأ جهود الأفغاني بالتركيز على الإصلاح السياسي كسبيل للإصلاح الديني والدنيوي العام، ويتبعه الكواكبي بالتركيز على مسار التحرر من الاستبداد، والذي ثبت عدم نجاحه لغياب الوعي الشعبي وحاجة المجتمع والشعوب الإسلامية إلى إعادة فهم الإسلام والتحول من مجتمعات قابلة للاستعمار (كما وصفها مالك بن نبي) إلى مجتمعات حرة متحررة، بما يعنى الحاجة إلى مسار تربية الفرد والمجتمع المسلم والشعب المسلم أولا، ثم يعاد تصويب وتوجيه البوصلة إلى مسار الإصلاح التربوي على يد محمد عبد ورشيد رضا وبن باديس ثم حسن البنا.
ثم ما لبث أن انحرف مسار الإصلاح مرة ثانية على يد الإخوان المسلمين، وذلك ما اعترف به حسن البنا قبل وفاته حين صرح بأن انحراف الإخوان إلى الاشتغال بالسياسة خطأ كبير، وأنه لو استقبل من أمره ما استدبر لعاد ثانية إلى التربية فقط. واتسع الخطأ والانحراف مدادا في ما تفرع عن الإخوان من تنظيمات دينية متنوعة الأفكار والمسارات؛ إلى اعتبار أنفسهم ككيان مواز وبديل عن الدولة، والتحول إلى العمل السياسي ثم الجهادي القتالي ضد الدولة ومنافسة الدولة على الحكم والدخول معها في صراع صفري حتى الآن، لم تصل فيه الحركة الإصلاحية إلى تحقيق شيء من أهدافها الإصلاحية التي أسست من أجلها ودعت لها، كما شحت مساهمتها في معالجة الأزمات الكبرى للأمة (وذلك ما أتناوله تفصيلا في مقال قادم بعنوان كشف حساب التنظيمات الدينية)، بل كان له الكثير من الخسائر على هذه التنظيمات وعلى المجتمع وعلى الحالة الإسلامية ذاتها.
بمعنى أن مسار الإصلاح تم تحويله عن مساره الدعوة والتربوي الصحيح، والعودة إلى المربع الأول مربع العمل السياسي، ولكن ليس الإصلاح السياسي الذي دعا إليه الأفغاني في عالم الأفكار، ولكن امتد إلى عالم الأشخاص والمؤسسات والنظم، بالمنافسة السياسية على الحكم تارة، والخروج على النظم وقتالها والغتيالات تارة أخرى، وبذلك استمر انحراف مسار الإصلاح حتى الآن على مدار تسعين عاما، بالاضافة إلى إهدار ثمار التجرية السابقة لها بخمسين عاما إضافية.
2- تشتت وتيه بوصلة الإصلاح، وافتعال معارك وهمية بعيدة عن المعركة الأم، معركة الدعوة وتربية الإنسان والمجتمع الحر على تعاليم الإسلام الحضاري.. انحراف البوصلة بافتعال معارك خاصة بالدستور، وأخرى متعلقة بالإصلاح الديمقراطي، وأخرى متعلقة بانتخاب مجالس النواب واختيار الوزارات.. إلى غيرها من المعارك السياسية التي تم فيها توظيف الحشد الدعوي والديني بوجه عام لخدمتها، بمعنى تم توظيف العمل التربوي لخدمة العمل السياسي وليس العكس، أي بتوظيف الواقع السياسي لخدمة الأهداف التربوية للمجتمع.
3- اختراق الكتلة الحرجة للمجتمع بثلة من المثقفين والعلماء المزيفين؛ نخب مزيفة ولأسباب سياسية تتعلق بالمحافظة على البقاء والمصالح. تتحفز أجهزة النظم الحاكمة لفعل كل ما تستطيع لوقف تمدد الحالة الإسلامية بشكل خاص والوطنية بشكل عام، مسخّرة جل جهودها لتشويه وتجريم وحصار ومحاربة الحالة الإسلامية، وفي مقدمة ما قامت به من اختراق الحالة الثقافية والدينية والإعلامية والسيطرة عليها، وصناعة نخبة دينية وثقافية وإعلامية للترويج لتمكين النظم الحاكمة المستبدة، وفي نفس الوقت تشويه وتجريم وحصار وعزل الحالة الإسلامية والوطنية بوجه عام، والتي تشكل في مجملها تيار الاصلاح.
4 - شح الحالات الإبداعية والقيادات المجتمعية المؤثرة نتيجة لطول فترة الاستبداد الاستعماري ثم المحلي، وحرصه الشديد على وأد أية مواهب في مهدها حتى لا تشكل خطرا سياسيا عليه في المستقبل، بالإضافة لعدم امتلاك النظم المستبدة لأية مشاريع سياسية وتنموية، مع غياب وعي التنظيمات الدينية والوطنية لضرورة الاهتمام بالمواهب والقدرات الخاصة، وتحويلها لحالات إبداعية في كافة التخصصات خاصة مجالات العمل الإصلاحي منها.
5- تفكيك وتغييب وإحلال الوعي الجمعي للمجتمع والشعوب العربية نتيجة لإحلال نظام أفكاره بالكثير من الخرافات والمسلمات الخاطئة والمفاهيم المغشوشة عن الإسلام وعن الآخر والصراع والعلاقة بالعالم بالإضافة إلى حرمانه من التعليم الحقيقيى على مستوى التعليم الأساسي والجامعي، بالإضافة إلى تجميد العمل المدنى والسياسى، والتي شكلت في مجملها عوامل ضعف وإعاقة ذهنية ونفسية ومعرفية ذاتية وموت سريرى مؤقت للإرادة المجتمعية، وحوّلت الشعوب إلى مجتمعات القطيع التي تعيش بلا رسالة ولا مشروع، ولا مشاركة في الحكم ولا علاقة لها بصناعة توجهات الدولة وقراراتها.
مبادئ ومشاريع الحل
في سياق ما بلغه عمق الأزمة من أعماق العقل العربي والإسلامي كان لا بد من صياغة مجموعة من المبادئ المنظمة لصناعة مشاريع الحل:
1- الكف عن سياسات التبرير وتحميل المسؤولية على الآخر، والاستغراق في توصيف الأزمة ومظاهرها، والشكوى والمطالبة المطلقة في الهواء، أو مطالبة الآخرين بوجود حلول للأزمة أو الدعاء وانتظار معجزات وحلول السماء، والتحول إلى العقلانية وصحيح الإيمان بالله تعالى والتفكير والتخطيط والعمل السديد لمواجهة الأزمات.
2- الإيمان بأن الحل ذاتي ووطني وبالإمكانيات المتاحة، وأنه متدرج وأساسه وبدايته إعادة بناء الإنسان والمجتمع على معتقدات وقيم ومفاهسم وتشريعات الإسلام الخالص من القرآن الكريم وما صح من السنة، بعقول مقاصدية استراتجية جامعة معاصرة، وليس أيديولوجيات التنظيمات أو التراث والتاريخ.
3- استعادة وتثبيت بوصلة التربية وبناء القيم والهوية وصناعة مجتمع التحرر الكامل لله تعالى الواعي بواجباته وحقوقه قدراته وممكناته على الفعل والإنجاز والتحرر من الاستبداد وتنمية ونهضة نفسه بنفسه.
4- حقيقة الأزمة فكرية ومركزية، مما يتطلب فتح فضاء وآفاق التفكير للباحثين والمفكرين لتحمل مسؤولياتهم التاريخية في نصر الدين وعلاج أزماته، وإظهار الكثير والمتنوع من الحلول الفكرية التي ستشكل في مجملها حالة حراك فكري يتمخض عنه تيار إصلاحي حقيقي على بنية فكرية صلبة وراسخة تؤسس لنجاحه وتدفعه بقوة نحو النجاح والإنجاز.
5- ترجمة الجهود الفكرية إلى مشاريع وبرامج عمل وواجبات فردية ودعوة الجميع للعمل وتحمل مسؤولياتهم، أفرادا وفرق عمل ومؤسسات، ولمن يريد من الأنظمة والحكومات، لتجاوز أزمتي اتساع الفجوة بين الأفكار الإصلاحية المجردة والعمل الميداني التنفيذي، وحصار الأنظمة الاستبدادية.
6- العمل في نطاق الواجب فعله، وليس الممكن والمتاح الذي تسمح به الأنظمة الاستبدادية أو يمنّ به الآخر المتسلط بقوته على ضعفنا المؤقت.
7- العمل في وفق القوانين والمعايير الحضارية التي تجمع بين مفاهيم الإسلام العظيم آخر الرسالات السماوية إلى الأرض، وبين أفضل وأنسب ما أنتجه الفكرى البشرى الحديث، وتوظيفه لاستكمال مسيرة البناء الحضاري وعمارة الكون لكل الإنسان، بغض النظر عن دينه وقوميته وعرقهه.
8- تأسيس وحدة تربوية وثقافية وهوياتية عالية الجودة تكون أساسا لوحدة ثقافية وسياسية مستقبلية قادمة عبر النظام المعياري الحضاري لصناعة القيم والهوية، والتي تقوم "قيمي هويتي" على تصميمه.
9- التزام قانون التكامل والتراكم الإصلاحي الإسلامي وتوسعته ليشمل التكامل والتراكم الإنساني للتجارب الإنسانية العالمية الناجحة، وليعاد صياغته بعنوان حضاري أسهل وأسرع فهما واستيعابا وتفاعلا من كافة التيارات المحلية والإقليمية والعالمية.
لا بد من امتلاك كتاب وموسوعة الخبرات الإصلاحية الإنسانية، وليس الإسلامية، فقط لأننا نعمل للناس كافة وليس للمسلمين فقط، كما أنه حق إنساني عام شاركنا فيه بأسهم كثيرة من قبل كما بقية الحضارات الإنسانية الأخرى.
مشاريع حل أزماتنا الإسلامية
سأكتفي هنا بالعناوين، على أن أفصّل في كل منها في مقال خاص بها إن شاء الله..
أولا: مشروع إصلاح الإخوان المسلمين.
ثانيا: مشروع تأسيس صناعة القيم والهوية الحضارية لإعادة إنتاج القيم برؤية تكاملية جامعة للعلوم الإنسانية وللرصيد الإسلامي والعالمي معا، وفق معطيات وتطبيقات الواقع المعاصر، والتي تعد من أهم الصناعات الثقيلة عالميا في مجال بناء الإنسان والمجتمع الحضاري المعاصر.
ثالثا: مشروع التحرر الكامل الدائم من الاستبداد.
"إلا رسول الله".. شعار تفريغ أم خطة عمل؟
"الورقة البيضاء" والواقع الأسود!