في 17 أكتوبر الجاري حلّت الذكرى الثانية والخمسون بعد المائة لميلاد أمير الشعراء أحمد شوقي. ومن قبيل الوفاء لجزءٍ مهمَلٍ من تراثِه، ولأنّ دور شوقي كروائيٍّ يُتجاهَل عادةً، فمهمة هذا المقال هي إلقاء ضوءٍ سريعٍ على هذا الدور، لاسيّما أنه أنجز رواياته الخمس عند التقاء القرنين التاسع عشر والعشرين أي في مرحلةٍ كان فنُّ الرواية العربية يخطو فيها خطواته الأولى.
صدرت رواياته الأربع الأولى التي استلهم فيها التراث الفرعوني بهذا الترتيب: (عذراء الهند) عام 1897، ثم (لادياس) عام 1898، (دل وتيمان) 1899، (شيطان بنتاءور) عام 1901، وأخيرًا (ورقةُ الآس) التي استلهم فيها التراث العربيّ عام 1902.
في مقدمة المجلَّد الذي أصدره المجلس الأعلى للثقافة بمصر عام 2007 جامعًا الأعمال النثرية لشوقي، يلفت انتباهنا الناقد أ.د.أحمد درويش إلى تصريح شوقي بعزمه على استلهام تاريخ مصر الفرعونية في سلسلة من الروايات تجمع بين التاريخ والتخييل، ثم إحجامه عن المواصلة بعد صدور (شيطان بنتاءور).
ويُرجِع درويش هذا الإحجامَ إلى الفتور الذي استُقبِلَت به رواياتُه، ويورد هجوم (إبراهيم اليازجي) عليها نموذجًا لرد الفعل العامّ تجاهَ محاولات (شوقي) السردية، حيث يقول اليازجي: "حقيقٌ بمَن بلغ في أمرٍ من الأمور منزلةً يكون فيها من رؤساء أربابه أن لا يتعدّى للدخول في فئةٍ ينزل فيها عن رتبتِه ويُعَدُّ بينهم آخر، فإنّ إهمال بعض الأمر لا عيبَ فيه، أوَلا يتعيّن على المرء الاشتغال بالأمور كلِّها؟!" هكذا عاب اليازجي على شوقي محاولاته السرديّة، وقد ردّ شوقي نفسُه على هذا الرأي بالاستشهاد بعددٍ من الشعراء المعدودين في أكثر شعراء أوربّا إجادةً، كفيكتور هوجو وألفريد دي موسيه، حيث أقدموا على السرد وأبدعوا رواياتٍ عُدَّت أسمى آياتِ أدبهم.
ملامح عامة للروايات:
من اللافت أنّ نظر شوقي اتّجه إلى العصور الفرعونية المتأخرة حين قرر استلهام تاريخ المصريين القدماء، ففي (عذراء الهند) تدور الأحداث زمنَ رمسيس الثاني (1303-1213 ق.م) أهم فراعنة الأسرة التاسعة عشرة ضمن الدولة الحديثة، وفي (لادياس) تدور الأحداث في زمن الفرعون أپرياس (حَكَمَ بين عامَي 589- 570 ق.م) وخَلَفِه (أحمُس الثاني/ أمازيس 570 – 526 ق.م) من الأسرة السادسة والعشرين ضمن العصر المتأخر أو ما يسمّى بالعهد الصاوي.
أما (دل وتيمان) فتدور أحداثها بين نهاية عهد أمازيس والمدة القصيرة التي تولى الحُكم فيها ابنُه أبسامتك الثالث. ولا شكّ أنّ هذا الاختيار عائدٌ جزئيًّا على الأقل إلى ما يَعتذر به شوقي لقرائه في مقدمة (عذراء الهند) مِن أنّ معرفتنا بالتاريخ المصري القديم مازالت في طور الطفولة الأولى، فربّما اعتبرَ أنّ العودة إلى الدُّول المصرية الأقدم تنطوي على مخاطرةٍ أكبر وعَدَّها رُكوبَ بحرٍ لا خارطةَ له.
إلاّ أنّ السبب الأهمّ في رأيي أنّه إنما أرادَ أن يعود إلى زمنٍ عرف فيه المصريون الاختلاطَ بغيرهم من الأعراق وفكروا في التوسُّع الإمبراطوريّ الاستعماريّ وتعرضوا لخطر الحروب مع جهاتٍ خارجيةٍ، وهي أمورٌ لم تُتَح للمصريين بحسب ما نعرفُ من التاريخ إلاّ مع غزو الهكسوس الرُّعاة لبلادِهم (حوالي عام 1650 ق.م) في عصر الاضمحلال الثاني.
وذلك أنّ شوقي أراد مِن وراء هذه العودة أمرَين: أوّلهما أن يبحث عن مجد مصر الزائل في فترةٍ كانت هي الدولة الأقوى المستعمِرة، وثانيهما أنّ يرى في تلك العهود المتأخرة من تاريخ مصر الفرعونية مرآةً لعصره هو، حيث اختلاط الأجناس في وادي النيل بين المصريين وغيرهم من العرب والأوربيين والأتراك العثمانيين والشراكسة وغير هؤلاء، وهي مرآةٌ لا توجد بالطبع فيما قبل عصر الرعامسة الإمبراطوري.
ثَمّ ملمحٌ آخر مشترَكٌ في إبداع شوقي الروائي، وهو أنّ رواياتِه جميعًا رواياتُ قُصور، تنفرد القصور بأكثر ما فيها من أحداث، ففي (عذراء الهند) تدور الأحداث أساسًا بين قصر الملك (دهنش) ملِك ملوك الهند الشرقية وقصور رمسيس وولي عهده شميوم (خامواس) الذي حُرِّف اسمُه هنا إلى (آشيم)، وتدور أحداثُ (لادياس) أساسًا بين قصر (پوليقراط) ملِك جزيرة ساموس اليونانية وقصر (أبرياس) في مصر، وفي (دل وتيمان) تدور الأحداث بين قصر الأميرة السجينة (نيتيتيس) ابنة الفرعون المقتول (أبرياس)، وقصر (أمازيس)، وقصر قمبيز ملِك ملوك الفُرس وميديا. وأخيرًا، في (ورقة الآس) تدور الأحداث أساسًا بين قصر الملك الضيزن ملِك الحضر (المملكة العربية الأولى التي قامت على أرض العراق بين الإمبراطوريتين الرومانية والفارسية)، وقصر شاهپور/ سابور ملِك الفُرس. لا أظنُّ هذا الاتفاق محض مصادفةٍ، فهو إن لم يَصدُر عن وعي شوقي الكامل، يعكس على الأقلّ احتمالاً قويًّا، مفادُه أنّ شوقي يؤمن في قرارة نفسِه بأنّ التغييرات الخطيرة في حياة الأُمَم لا يمكن أن تصدُر من خارج القصور، وأنّ للملوك وحواشيهم اليد الطُّولى في توجيه دفّة الحياة، وربّما كذلك أنّ ما سوى القُصور من الدُّور لا يمكن أن يشتمل على حياةٍ ثريّةٍ بما يكفي لخلق حِراكٍ يستحقُّ أن يُخَلَّد في دراما أو رواية، وهي مَعانٍ تدور في شِعر شوقي ونثرِه بشكلٍ صريحٍ أحيانًا مُضمَرٍ أحيانًا، ولا عَجَبَ وهو رَبيب القصر الخديويّ الذي نبغ في البداية بصِفَته شاعر القصر.
كذلك فإنّ هناك سماتٍ متكررةً في الحبكة بين هذه الروايات، منها وجود البطل المصريّ شديد النُّبل والقوّة والوسامة في كمالٍ أسطوري، الذي يقع في حُبّ فتاة أجنبية، وتُبادِلُه بدورها العشق وتفضِّلُه على أقرب الأقربين لها. يحدثُ هذا في (عذراء الهند) بين آشيم والأميرة الهندية وابن عمّها المدعو (ثَرثَر)، ويحدث في (لادياس) بين أمازيس ولاديكي ابنة الملِك پوليقراط (التي حُرِّف اسمها إلى لادياس) وابن عمّها الشقيّ (بيروس)! ومنها وجود الحكيم العالِم الرُّوحانيّ ذي القدرات الخارقة الذي له على هامش الرواية رحلةٌ روحيّةٌ لا تظهر منها إلاّ علاماتٌ قليلة، فهو (طوس) كبير الكُهّان في (عذراء الهند) الذي طُرِدَ من الكهانة لوقوعه في الزنا، وهو الأخَوان الساحران الآشوريّان (برمبال/ إحيا وأخوه بترمبيس)! ومن العجيب أنّ حياة (طوس) تنتهي وهو يحتضن ابنَه من السِّفاح (هاموس) بنزول صاعقةٍ من السماء تخطفهما إليها، وتنتهي حياةُ الساحرَين الآشوريَّين كذلك بأن تُبرق السماء وتُرعِد تُنزِل صاعقةً تفزع الجنود المصريين في ميدان معركة پيلوسيوم (الفَرَما)، ويموت على إثرها الأخَوان!
تطوُّر شوقي الروائي
لكنّ رحلة شوقي القصيرة من (عذراء الهند) إلى (ورقة الآس) لا تخلو من تطوُّر في آليات الكتابة وازديادٍ في نُضج الرؤية إلى التاريخ والعالَم. فمِن ذلك أنّ (عذراء الهند) تملأها المبالَغات على كل الأصعِدة، فمن ناحيةٍ، وسَّعَ شوقي حدود الإمبراطورية المصرية الرمسيسية التي يقول التاريخ إنها امتدّت إلى غربيّ بلاد الشام وشمالاً إلى جنوب الأناضول، فجعلها تنتفخُ شرقًا إلى أن تبلُغ الهند، وليس ثَمّ دليلٌ تاريخيٌّ على توسُّعٍ استعماريٍّ جبّارٍ كهذا قبلَ دولة الفُرس الأخمينيِّين في القرن السادس قبل الميلاد.
ومن ناحيةٍ أخرى لا يكاد يخلو فصلٌ من هذه الرواية من أحداثٍ يحرّكها سِحرٌ جبّارٌ يبدّل مناظر الأشياء تبديلاً رهيبًا ويُخفي ما هو ظاهرٌ ويُظهِر ما هو خَفِيّ، وفي رأيي أن شوقي بثّ هذا السِّحر في ثنايا روايتِه الأولى تأثُّرًا بما يحكيه القرآن عن سَحَرَة فرعون وما استقرّ في الوعي الجمعيّ بخصوص تمكُّن قدماء المصريين من السِّحر، لكننا حين نطالِع الرواية نخالُ أحيانًا أننا مُلقَون في عالَمٍ لا يقلّ فانتازيّةً عن عالَم (هاري پوتر)! وفي تقديري أنه رغم ما يأخذ العينَ من سذاجة الأحداث في هذه الرواية إلاّ أنها تَصلُح ببعض المعالجة لتكون أساسًا لفِلمٍ فانتازيٍّ مصريٍّ لا يقلّ سِحرًا عن سلسلة (پوتر).
فإذا انتقلنا إلى الرواية التالية (لادياس)، فسنجد أنّ هناك فارقًا كبيرًا بين جزءَيها، فالأول الذي يدور في جزيرة (ساموس) يصعد ببطولة أمازيس ونُبلِه إلى درجةٍ أسطوريةٍ، فهو يتغلّب على الأسد الرهيب الذي يروّع أهل المدينة ويستأنسُه فيدخلُها دخول الغزاة الفاتحين، في تنويعةٍ على أسطورة أوديپ، وحين يتغلّب في المبارزة على منافسِه الفارسيّ - ذلك الذي ادَّعى لنفسِه مِن قبلُ كُلّ ما أنجزَه أمازيس على أرض ساموس متعلّقًا بإنقاذ الأميرة (لادياس) – نَجِدُهُ يهوي إلى جبين المنافِس المقتول ويقبّله باكيًا لأنه لم يقابل في حياتِه أكفأَ منه، مع العلم بأنّ هذه هي المرّة الأولى التي يلتقيان فيها! أمّا الجزء الثاني من الرواية الذي يدور في مصر فقد جاء على مقتضى الواقع وما سجَّلَه التاريخ، بين مؤامرات القصر الملَكي وتحالُفات وتحزُّبات الحاشية وإعلان الجيش العصيانَ على الفرعون إلى غير ذلك.
وهذه الواقعيّة والالتزام بالصدق التاريخيّ يستمرّان في (دل وتيمان) رغم خيط الساحر الآشوري الفانتازيّ الذي ينخلع من جسده ويخاطبُ ربيبَه (تيمان) بصوتِه دون أن يظهر! ثم إنهما يستمرّان أخيرًا بصورةٍ أكثر صرامةً في (ورقة الآس)، فليس في هذه الرواية الأخيرة إلاّ ما نعرفه من أحداث المؤامرة والخيانة والإغراء والوفاء، وكلُّها أحداثٌ بشريّةٌ يوميّةٌ لا دخل فيها للفانتازيا.
والحقيقة أنّنا بهذا لا نعني بالتحديد أنّ الفانتازيا سذاجةٌ والواقعيةَ نضج، لكنّ استخدام شوقي للفانتازيا في روايته الأولى كان يبدو أحيانًا أقربَ ما يكونُ إلى جُنوحٍ إلى الحل الأسهل في تسيير دفّة الأحداث، ومن هنا فإنّ إسلامَه القِيادَ إلى مجريات الواقع تدريجيًّا كان خروجًا من الاستسهال إلى المكابدة ومن مغامرة الهواية إلى إتقان الحرفة.
وثّمّ ملمحٌ آخر لهذا التطوُّر، هو بسط الإنسانية تدريجيًّا لتشمل غير المصريين، أعني الاعتراف بالفضل للآخَر الذي لا يشارك شوقي الانتماء الوطني. فبينما نَجِد صورة الهنود في (عذراء الهند) تجعلُهم بَشَرًا مِن الدرجة الثانية بالنسبة للمصريين، نرى في (لادياس) بين اليونان (كلكاس) البليغ الداهية الذي لعب دورًا في إنقاذ حياة الأميرة في البداية وعاد في النهاية ليلعب دورًا متمِّمًا فأعانَ أمازيس على إنجاز وعده للادياس واعتلائه عرش مصر.
أمّا في (دل وتيمان) فإنّ بطل الرواية نفسه تتّضح لنا هويّته تدريجيًّا، فيُشار في البداية إلى أنه آشوريٌّ، فنستنتج أنه من بقايا الغزاة الآشوريين الذين أجلاهم عن مصر (أبسامتِك الأول) سنة 664 ق.م، ثم نكتشف من المونولوج الفانتازيّ الذي يُنطق به شوقي صوتَ الرُّوح/ مُعلّم تيمان/ إحيا في مشهد زيارة تيمان ودل لقبر أپرياس، نكتشفُ أنّ (تيمان) أميرٌ إسرائيليٌّ هو (يوهاشيم) ابنُ ملك يهودا (سدسياس) – ربما عني به شوقي (صدقيا) – اختطفَه الساحر الآشوري وقرر أن يربّيه في مصر، وأنّ الساحر إحيا اختار لنفسه ولربيبه تيمان/ يوهاشيم دينَ موسى التوحيديّ.
هذه القفزة ناحية البطل ذي الأصول غير المصرية في (دل وتيمان) تبدو مُعبِّرةً عن دفاع شوقي عن وطنيتِه وانتمائه المصري رغم أصوله الشركسية والكُرديّة والتركية واليونانية، لاسيّما أنّنا إزاء شاعر بلاطٍ كثيرًا ما طُعِنَ في وطنيتِه، وساعد على هذا الطَّعن مواقفُه المتحفظة إزاء دُعاة الثورة في زمانه، وتحديدًا أحمد عُرابي الذي هجاه شوقي هجاءً لاذعًا بقصيدته التي مَطلعُها:
"صَغارٌ في الذَّهابِ وفي الإيابِ .. أهذا كلُّ شأنِكَ يا عُرابي؟!"
وحين نصِل إلى (ورقة الآس) نكتشف أنّ البطلة التي تدور الأحداث حولها هي (النضيرة) الأميرة العربية الخائنة لقومها ولأبيها، فيما يعتقِد بعضُ المحلِّلين أنه تنويعٌ على أسطورة نيسوس وسكيلاّ اليونانية التي أشَرنا إليها في مقالٍ سابقٍ بعنوان (ضفائر شمشون ونيسوس والزوجة الميتة).
اقرأ أيضا: ضفائر شمشون ونيسوس.. والزوجة الميتة
والمهم أنّ (النضيرة) وقعَت في حُبّ شاهپور من نظرةٍ عابرةٍ فيسّرَت للفُرس إسقاط مملكة الحضر في سبيل الفوز بقُرب معشوقها، ولم تكتفِ بهذه الخيانة، فحين تربَّعت على عرش الإمبراطورية الساسانية زوجةً لشاهپور اشتدّ إعجابُها بأزدشير الأخ الأصغر للملِك فأرادت أن تغريَه بمواقعَتها وأن تزيّن له العمل لإزاحة أخيه من سُدّة الحُكم.
ونلاحظُ أنّ شوقي الذي بدأ سلسلة رواياتِه رافعًا العنصر المصري – الذي ينتمي له – إلى السماء، انتهى بتصوير قصةٍ تتمحور حول خيانة أميرةٍ تنتمي إلى الأرومة العربية التي يعتزّ بالانتماء والولاء لها هي الأخرى، كما صوّر نُبل شاهپور وأزدشير الفارسيين.
هكذا صارت العلاقات الإنسانية بين أبطال رواياته من البساطة في (عذراء الهند) إلى التعقُّد في (دل وتيمان) إلى المزيد من التعقُّد في (ورقة الآس)، وبلغ أفضل مستوىً له في تصوير نوازع النفس البشرية في تلك الرواية الأخيرة. ولا يَبعُد أنّه لو أخلصَ للرواية إخلاصَه للشِّعر لكان أبدعَ أعمالاً أرقى وأعقَدَ بين 1902 عام صُدور (ورقة الآس) وتاريخ وفاته عام 1932.
شيطان بنتاءور: النسر والهدهد
ختمَ شوقي رباعية استلهام التراث الفرعوني بهذه الرواية التي لم نذكُرها إلا بشكلٍ عارضٍ في صَدر المقال.
وبنتاءور هذا هو شاعر الفرعون رمسيس الثاني الذي خلَّد انتصارَه على الحِيثِيِّين في معركة (قادش) بالقصيدة المشهورة باسمه (قصيدة بنتاءور). وفي هذا النص يستدعي شوقي بنتاءور في صورة نسرٍ قديمٍ يشبّهه بلُبَدِ لُقمان بن عادٍ الذي تذكرُه الأساطيرُ العربيةُ مثالاً على التقدُّم في السنّ، كما يصوّر نفسَه في صورة هدهدٍ كهدهد سليمان، ويدور النص في خمس عشرة محادثةً بين الطائرَين الذَين يتبدّلان إلى صورتهما البشرية أحيانًا، حيث يعودُ بنتاءور بشوقي إلى عصر رمسيس الثاني ويجول به في عواصم مصر الفرعونية مُشهِدًا إيّاه جلالَ حضارة الأجداد، ويستضيف شوقي رفيقَه القديمَ في عصرِه الحاضرِ ويتجوّل به في مصر الحديثة ليتحسّر معه على ذهاب عصر التفوق المصري ويرثي لحال الوطن بين مخالب الاحتلال الأجنبي وتخاذُل أبناء الوطن.
وبالطبع يجرّد شوقي من نفسِه هذا النسرَ المتطلّع إلى الماضي الجليل، كما يختار لنفسِه الحاضِرة هدهد سليمان بالتحديد دالاًّ على رؤيته لِذاتِه شاعرًا حكيمًا طافَ بمجالي الحضارة الحديثة وخَبَرَ أحوالَ البلاد والعباد، مستحضِرًا بشكلٍ ضمنيٍّ إخبارَ الهُدهد لسليمان بخبر بلقيس وسبأ، فلسانُ حالِ شوقي يقولُ لنا: "أنا أحطتُ بما لم تُحيطوا به فرأيتُ ما لم تَرَوا في أوربّا، كما استطعتُ أن أرى الماضي بعينَي النسر/ بنتاءور، وها أنذا آتيكم من الماضي ومن الحاضر النائي عنكم بنبأٍ يقين"!
لكنّ صياغة شوقي لهذا النص بالتحديد ترتدُّ به إلى فنّ المَقامة العربية، فصحيحٌ أنّ النص متأرجِحٌ بين السرد والحِوار كما في الرواية، لكنّ الفصول تبدأ وتنتهي جميعًا بنفس الطريقة على نَهج المَقامة، حيثُ يتثاءب بنتاءور في آخِر كل فصلٍ ويقول جملةً مكررةً "إذا جاء الليلُ ذهبَت الشياطين" ويصرفُ الهدهد إلى عُشِّه بحُلوان، ليلتقيا من جديدٍ في الفصل التالي، ويتنكّر بنتاءور في هيئةٍ جديدةٍ أو يتزيّا بلِباسٍ مختلفٍ في كلّ مرّةٍ، فكأننا أمام عيسى بن هشام راوي مقامات بديع الزمان الهمذاني، ولقاءاته بأبي الفتح السكندريّ بطل المقامات الذي تنفرِجُ أحداثُ كُلٍّ مَقامةٍ عن وجودِه في نهايتِها!
لكنّ الشاهد من نصّ (شيطان بنتاءور) أنّ شوقي يُطِلّ علينا – لا في هذا النص فقط، وإنما في سائر رواياته الخمس – إطلالةَ نسرٍ وهدهدٍ مجتمعَين، فهو نسرٌ قديمٌ يُهيبُ بالماضيَين المصري والعربي ليأخذ منهما العِبَرَ ويستنطِق أحداثَهما بالمواعظ، وهو كذلك هدهدٌ جوّالٌ حكيمٌ رأى ما لم نَرَ، وقرر أن يُخبرَنا بما رآه ويضع يدَه على مكامن الضعف في الحال المصرية.
وفي رأيي أنّ شوقي حين دافع عن وطنيتِه في الرسالة التي ردّ بها على تشكيك الزعيم (محمد فريد) فقال "وطنيتي أيها الرئيس الكريم في الشوقيات، وفي عذراء الهند، ودل وتيمان، ولادياس، وبنتاءور" فإنه كان يعني بالضبط هذا المعنى، أنّه لم يَكتُب ما كتبَ شِعرًا ونثرًا إلا منطلِقًا من حِسٍّ وطنيٍّ مُخلِص.
ولنا أن نتّفق أو نختلف مع ما ذهب إليه شوقي من آراءَ تتصل بمجريات الأحداث في الشأن المصريّ، لكنّ الذروةَ التي بلغَها إبداعُه في الشِّعر والمسرح، فضلاً عن محاولاته الروائيّة الرائدة، تجعلُ من محضِ وجودِه في تاريخ مصر الحديثة آيةً على الوطنيّة، وإلاّ لَما صارَ ركنًا مهمًّا في البناء الثقافي المصري الحديث، كما هي منزلتُه بيننا إلى الآن.
أمير الشعراء والجنرال ساراي.. والسيد ماكرون!