اتخذ زعيمُ حزب
النهضة الشخصيةَ التجمعية الأولى مستشارا له، فعادت معركة تقاسم الرصيد البشري للتجمع (أي قوته الانتخابية) إلى الواجهة من جديد، بعد أن خمدت أو اختفتى تحت ركام المعارك اليومية حول الخبز والصحة والأمن.
وانقسم الناس حول
هذا التعيين شيعا؛ بين من يرى الأمر من زاوية أخلاقية ومبدئية فاعتبر التعيين خيانة للثورة وللشهداء، وبين من يراها بعين واقعية كلعبة من ألاعيب السياسة ويبررها بمنطق براغماتي. فالغنوشي ليس أول من استعان بالتجمعيين بل هو آخرهم، ولكن يبدو أنه فاز بالغنيمة الأكبر من بين نافس على استقطاب هذا الرصيد، حيث ستظهر قيمته الفعلية في انتخابات 2024 التي يبدو أن الغنوشي يستبقها بعد.
الرفض الأخلاقي للتجمعيين
الذين تعلو أصواتهم الآن بإدانة هذا التعيين من داخل حزب النهضة ومن خارجه فيهم الصادق بإخلاص للثورة وللشهداء، حيث يدعون إلى قطيعة مع التجمعيين واستبعادهم من ساحة الفعل السياسي (ما زالت هناك قلة متحمسة لتعليق المشانق، ولكنها قلة حالمة بثورة جذرية ولا ترى أن أسبابها انقطعت منذ تم تفكيك اعتصام القصبة الثانية وتعيين الباجي قائد السبسي رئيس حكومة انتقالية سنة 2011.).. في هؤلاء صادقون كثر وهم خميرة الثورة الحقيقية، ولكنها خميرة مبعثرة ولا جامع بينها لذلك تتحول إلى موقف طوباوي عاجز عن الفعل.
وفي هؤلاء أيضا فريق مزايد بالطهورية الثورية، بل هو الأعلى صوتا بالنقاء الثوري على حساب حزب النهضة، ولكنه لم يقدم وجها ثوريا خارج الإذاعات والسوشيال ميديا ولم يمارس القطيعة مع التجمعيين. فأحد هؤلاء رئيس حزب معارض (التيار الشعبي) كان رئيس شعبة تجمعية، وهو مكون أساسي في الجبهة الشعبية أو من تبقى منها، بما يجعل خطابهم سفاهة سياسية لا يعول عليها.
وقد رأينا الكثير منهم يتحالفون هذا العام بالذات مع المكون الفاشي للتجمع في البرلمان، وقد خاضوا معاركهم الأخيرة كتفا لكتف مع الفاشية ضد النهضة وأنصارها؛ في البرلمان وفي الشارع وفي الإعلام.
كل هؤلاء فقدوا الاعتبار في الشارع ولم يعودوا في الموقع الأخلاقي الذي يربك حزب النهضة وزعيمه؛ عندما يسعى إلى استقطاب رصيد انتخابي تجمعي لحزبه في أفق 2024. ويمكن القول إن الغنوشي قد تربص بهم حتى استفرغ ثوريتهم، وتقدم في الوقت الذي راقه لأخذ غنيمته من ساحة سياسية بلا قيادة طاهرة أخلاقيا. لكن لا ينبغي تجاهل سؤال كاشف، وهو كيف وصل التجمع القوي إلى فلول هاربة تبحث عن حضن سياسي حتى لدى أعدائه القدامى؟
المصير الطبيعي لحزب الغنيمة.
لم يكن هناك رابط فكري (أيديولوجي) يلحم مكونات التجمع زمن ابن علي، لذلك لم يكن في حقيقته إلا تكتلا من طلاب الغنائم عبر التموقع في مفاصل الدولة بواسطة أشد أنواع المكر والقمع للمعارضين، وفي مقدمتهم القوة الأكبر، أي الإسلاميين، دون أن نغفل المكون
اليساري الاستئصالي الذي كان يفكر له (التجمع) وينطق بلسانه، وهم المنكبون على لم التراث، وهو كان يعاملهم كمطية سهلة في حربه الاستئصالية.
لقد تم حل الحزب في موجة الثورة وحماسها بقرار قانوني، فتشتت الرصيد البشري في أحزاب صغيرة في مرحلة أولى، ثم التحقت مكونات كثيرة منه بأحزاب معارضة لحكم الترويكا، وتعرت مكوناته المتكالبة على المغنم والمتحمسة لحروب الاستئصال أكثر فأكثر. وكان حزب النداء خشبة نجاة قدمها لهم الباجي قائد السبسي، وهو أحد صائدي الغنائم المحترفين، فوصل على أكتفاهم إلى الرئاسة، فظنوا أن الثورة لم تقع وأن البلد قد عاد إلى أيديهم، فتعرت من جديد نواياهم التسلطية وروحهم الغنائمية. لكن الحزب لم يصمد لخمس سنوات لهذه الأسباب بالذات، وقد فقدَ عصا البوليس وذهب أيد سبأ في انتخابات 2019، وتميز منه المكون الفاشي الاستئصالي بكتلة نيابية. لكن هذا الشتات لم يتلاش إلا قليلا، وانبث كثير منه في نقابات حوّلت المطلبية إلى فأس تخرب كل شيء.
ونظن أنه رغم ذلك، فقد دخل التجمع مرحلة البحث عن كفيل سياسي يستعيد به بعض المغنم، مع اليقين بأنه ليس على قلب رجل واحد، وليس له رأس واحد يفكر له، بل شتات يفكر بطرق فردية لكن بمضمون متقارب: الغنم من السلطة، ووسيلته الإيهام بقدرته العددية في الصندوق. من هذه الزاوية نرى دخول محمد الغرياني (الأمين العام السابق للتجمع) إلى مكتب الغنوشي، زعيم النهضة. لقد جاء يعرض خدمات انتخابية فوجد محتاجا يستبق ولا يتورع.
حسبة براغماتية في بيت أبي سفيان
مع حفظ الفارق في المقارنة بين من فتح مكة وبين حزب النهضة وزعيمه، نتذكر أنه من دخل بيت أبي سفيان فهو آمن. تلك أيضا كانت حسبة براغماتية أمّنت نشأة دولة في الجغرافيا المتحركة للقبائل الحديثة العهد بالانتظام المركزي.
يوجد رصيد انتخابي تائه وبلا مشروع من ناحية، يقابله حزب يتقلص في الشارع وقد أكلت السلطة من رصيده البشري والأخلاقي، ولكن عينه لا تفارق السلطة. لقاء مصلحة مكشوف ولا يخجل، فقد قدم له خصومه مبررات كثيرة كي يفعل ما فعلوه قبله: الاستفادة من الرصيد الانتخابي للتجمع.
ما من حزب أو كتلة لم تحاول ذلك منذ اعتصام الرحيل إلى الصراع على تعديل المنشور المنظم للإعلام مرورا بكل الانتخابات. وكما أسلفت القول، فإن السمعة الأخلاقية للجميع قد تلطخت بالتجمع بدرجات بما يجعل طهوريتها مطعونة، فتحررت النهضة من عار ليس في الحقيقة محل إجماع. ويمكنها القول أنا آخر المستثمرين.
بل نميل إلى أنه في جانب آخر لقاء ثأري يتناول وجبة انتقامه باردة على الطريقة الفرنسية. لقد استثمر اليسار الاستئصالي في التجمع (وكرر الأمر في حزب النداء) وحارب به النهضة طيلة وجودهما في نفس الساحة. كان اليسار يزايد بالقطيعة مع النظام، ويعيش تحت إبطه ويأكل من خيرات الدولة. وقد تغيرت معطيات كثيرة على الأرض، فتقطعت السبل بين اليسار والتجمع (القاعدة المحافظة التي ظلت قريبة من الغرياني) وبقيت النهضة وحدها في ساحة التأثير السياسي الحقيقي، فتقدم لها التجمع (أو شق كبير منه) يعرض خدماته، وهي راغبة وقد قبلت واستكملت التعيين الشكلي.
بهذا التلاحم/ الاتفاق الذي ظاهره تعيين مستشار؛ يصطاد الغنوشي أعداء كثرا؛ يسحب الرصيد التجمعي غير الفاشي إليه، فهذا الرصيد لا يميل إلى كشف فاشيته وفيه من يجبن دون خطاب الفاشية المكلف، ويقطع سبل التواصل الباقية بين تجمعي محافظ/ ريفي بالأساس وأخرس وبلا مشروع فكري أو أيديولوجي، وبين شتات يسار مزايد بالثورية دون رصيد بشري حقيقي، ثم يؤلف للانتخابات القادمة في البلديات ثم في البرلمان 2024. ولكن يبقي سؤال: أيها دار أبي سفيان؟
من استوعب من في هذا الاتفاق؟
زهو النهضويين الفرحين بهذا الاتفاق لا يحجب عن التحليل أن الوجهة النهائية لم تتضح بعد، فلا نعرف أدار النهضة هي دار أبي سفيان التي سيأمن فيها التجمعيون على أنفسهم، أم دار التجمع هي التي ستعرض الأمن والأمان على النهضويين الخائفين دوما من الغول؟ سياسيا وواقعيا، هل استوعبت النهضة التجمعيين أم استوعبوها؟
ليس من اليسير الإجابة عن هذا السؤال من خلال حركة التعيين الفردية في ظاهرها (والتي قد نكون أفرطنا في تحميلها معاني أكثر مما تحتمل الآن)، ولكن طبيعة الترشيحات للبلديات وترتيب القوائم ثم الترشيح للبرلمان؛ إذا سارت الأمور كما هو مرتب لها بالقانون ولم تحدث قلاقل اجتماعية، هي التي ستكشف طبيعة هذا التعيين/ التحالف.
كيف سيتم التفاوض على القوائم، خاصة أن جماعات النهضة الجهوية قد ربت كوادر للقيادة ولها طموحات تفوق حجم قاعدتها الفعلية بعد عشر سنوات في الدولة. كم سيخفض الغنوشي من طموحاتها ليجد للتجمعيين العائدين مكانا بينها؟ فالأكيد أن هؤلاء لن يقبلوا بأن يكونوا رصيدا انتخابيا أخرس للنهضة. (هنا تكون النهضة قد نقلت مشكلة ذات كلفة عالية إلى داخلها ولم تكن في حاجة لها).
ذهبت بعض التحليلات إلى أن الغنوشي وبعد أزمة الانتقال القيادي يستعين بالغرياني وفلوله ضد شقوق من حزبه،
تقودهم عريضة المئة، وهو يناور بالغرياني ضدهم ليهدأ من جموحهم ورغبتهم في تغييره، فيكون الرجل قد وفّر قاعدة انتخابية لأنصاره المخلصين، وتمكن من طرد فعلي لمعارضيه الداخليين إذ أشعرهم بقلة وزنهم في الحزب، ويكون بذلك قد كسر حزبه واستبدل أولاده بتنبي أبناء جيرانه. (وجهة النظر هذه تسقط كل التحليل السابق وتجعله تجديفا سياسيا).
في كل الحالات سندفع الخيال السياسي إلى مداه البعيد. نتوقع أن حلفا يمينيا يتشكل في وضح النهار لينهي وجود اليسار في
تونس (هذا من أهداف الغنوشي)، ويتملك الدولة بدمج آلتين حزبيتين قويتين (إحداهما تعتبر الدولة ملكا أزليا لها) ستقودان البلد تحت مسمى واحد أو مسميين متقاربين، بجنوح يميني أو ليبرالي لا يتورع عن شيء. ستنكشف يمينيته في مفاوضات الاليكا الجاثمة فوق تونس كسيف ديمقليطس.
دار أبي سفيان مفتوحة الآن لتعيد إنتاج ملك عضوض وتفرغ ثورة من معناها. المكسب الوحيد في هذه المرمة هو أن تيار اليسار المتطرف قد وجد نفسه في العراء والزمهرير قادم. سيقدم الغرياني للنهضة انتقامها من الوطد ويسار فرنسا، أما نحن فمع السليك بن السلكة الصعلوك: اللهم إنك تيسر ما شئت لما شئت (...) اللهم قنا من الخيبة، أما الهيبة فلا هيبة.