المشاكل التي يواجهها
العالم العربي سببها داخلي، وتبدأ المعضلة بأن يرفع الحاكم الوطني -أيا كانت خلفيته- شعارات قومية أو إسلامية أو وطنية، ولينتهي الأمر بضرب القومية والإسلام والوطن، وتواطؤ الحاكم مباشرة أو بشكل غير مباشر مع الأجنبي الذي تظاهر بأنه حرر الوطن من سطوته. وبذلك حلت الدولة المافياوية محل الدول المستعمرة، وحل الحاكم الوطني المستبد والفاسد المسنود من الأجنبي محل الحاكم الأجنبي المستعمر.
وقد هيمن الحاكم بالقوة على الوطن وتماهى معه، فصار المعارض له خائنا للوطن، وظهر أتباع الحاكم القومي أو الوطني يروجون له ويعتبرون ظهوره معجزة، وأنه حارس الوطن والمواطن من الأعداء الذين يبدأون بإسقاطه حتى ينقضوا على الوطن، وصارت المحافظة على هذا الحاكم هو المدخل للمحافظة على الوطن.
في ظل هذه الشبكة من التحالفات والتعقيدات توحشت إسرائيل، وغشى
الفساد ونخر في عظام الوطن، واستعيد المواطن الذي جهله وتحمل أحلاما مجهضه على الخارج الداعم للحاكم، وظن أن هذا الخارج سيخلصه من طغيان الحاكم، ولا يدرك أن هذا الخارج هو حليف الحاكم ولا يمكن أن يفرط فيه، فصار ضحايا الحاكم يُحملون بأوهام الإنقاذ من الخارج، لدرجة أن بعضهم اعتقد أن عودة المستعمر هو الحل لأنه أكثر رحمة بالوطن والمواطن من الحاكم المسعور بحب السلطة وشديد التمسك بها على حساب الوطن والمواطن.
هذا العرض الذي يبدو للبعض سوداويا ومبالغا فيه هو المدخل لتفكيك الأزمة بين الحاكم والمحكوم، رغم أن الخارج حليف الحاكم ضد المحكوم وإن كانت شعارات الخارج الكاذبة تمتدح
الديمقراطية وحقوق الإنسان.
وهناك مجالات العمل لحل الأزمة مع حاكم يستقوي بالخارج وتحيطه مجموعات من المصالح تستنزف موارد الوطن على حساب بقية الأغلبية من الشعب، فالجوع والحرمان للمواطن والفقر الرغد والخيرات للحاكم، وهذا شائع في معظم المنطقة العربية مهما كان شكل الحكم فيها. فالأزمة بين حاكم هذا حالة ومحكوم نعلم جميعا أنه ضحيه الوضع.
المجال الأول بين الحاكم العربي والخارج، وهي الحلقة الأساسية، ولذلك كان الاستقرار الوطني هو المدخل لإصلاح نظام الحكم لأن الخارج تغول وربط كرسي الحكم بقراره ودعم الحاكم أو خذلانه.
الحلقة الثانية هي ضرورة تحسين وعي المواطن، والحلقة الثالثة هي توعية الحاكم بمخاطر الانفراد بالسلطة بدعم الخارج، وتغطية الخارج على ممارساته في الداخل مقابل توظيف الحاكم وبلده لمصالح الخارج.
الحلقة الرابعة ضرورة استثمار نخب ثقافية وفكرية تنحاز إلى الوطن ومصالحه، وتؤمن بسلمية إقناع الحاكم بالتغيير بدلا من الثورات التي لا تحسم شيئا. ولنذكر أن الحاكم العربي الذي ثارت الشعوب عليه سرعان ما تراجع خطوة ثم استعان بقوى منتفعة داخلية وتحالفات خارجية عالمية وإقليمية لدعم الحاكم ضد الثورات، مقابل أن يحقق مصالحها، وهذا ما يفسر توجه بعض الحكام نحو إسرائيل لتعزيز مواقع السلطة في بلادهم. وسبحان مفير الأحوال، فقد كان الشعار المعادي لإسرائيل ولو نظريا كافيا لبناء شرعية الحاكم العربي، لكن صار التقارب من إسرائيل هو المصدر الوحيد لشرعية الحاكم العربي.
فالنخب الجديدة تنحاز إلى الوطن ومصالحه العليا وتتوسط بين الشعوب وبين حكامها، ولا تسمح بتجاوز الحكام واستخفاف الشعوب بحكامها والتجرؤ عليها، مقابل تقارب الشعوب من حكامها تمهيدا لاستخلاص مشروعية الحاكم من الشعوب عبر آليات مقبولة.
ولا بد للنخب أن تفهم الحاكم بأن مصالح الوطن العليا أبقى من حسابات السلطة ونظام الحكم، وأنه إذا خسر الوطن فلا شرعية للحاكم. فحب الحاكم للسلطة يفوق حبه للوطن، ويعتقد أنه هو الوطن أو زواله يؤدى إلى زوال الوطن. فيجب إفهامه بأن الإنسان يأتي إلى الدنيا ويخرج منها وتظل الدنيا قائمة، وكذلك الحال في الوطن الذي يدخل الحاكم في إدارته، وهو الذي يغادره بالموت أو يتداول السلطة، لكنه مفهوم طارئ لا يرتاح له الحكام العرب.
هذه المجالات الأربعة يجب التركيز عليها والإصرار على مسيرتها لأنها الكفيلة بحل أزمة الدول العربية، وهي ضرورة إصلاح المحكوم والحاكم بالوعي والفهم، وتجريد المنصب من المنافع حتى يصبح كالدول الديمقراطية ملكا للمجتمع لا يجوز الانقضاض عليه.