ما أن أعلنت شركة نتفليكس، عن بدء عرض حلقات المسلسل المصري "ما وراء الطبيعة"، المأخوذ من روايات الكاتب المصري أحمد خالد توفيق، عبر شبكتها، حتى أثار المسلسل ضجة واسعة ومتباينة عبر وسائل التواصل الاجتماعي؛ فهناك جمهور واسع احتفى بالمسلسل واعتبره عملاً ناجحًا ورياديًا في باب قلما طُرق عربيًا في الدراما والسينما والأدب، وهو باب الفانتازيا والرعب وعالم ما وراء الطبيعة.
غير أن قسمًا لا يستهان به هاجم المسلسل وسخر منه، و قد ضم هذا القسم الكثير من الناشطين المحسوبين على الثقافة والأدب، أي أننا نتحدث -بقليل من التعسّف- عن جمهور المشاهدين في مقابل جمهور النخبة، وسيحاول هذا المقال البحثَ في الأسباب التي أغضبت جمهور النخبة من المسلسل وجعلته عرضة للسخرية والنقد.
إنّ أوّل ما يلفت النظر في المسلسلات التي تنتجها نتفليكس هو تركيزها على هذا النوع الفانتازي في أولى إصداراتها العربية، فمن مسلسل "جن" الأردني -وهو أوّل مسلسل عربي أصدرته- نجد هذا التركيز على عالم الجن والرعب والفانتازيا، وقد جاء المسلسل الأخير ليعزّز هذه الصورة عند المشاهد العربي، الأمر الذي جعل نتفليكس في دائرة الاتهام، بأنها تسعى إلى "تتفيه" المحتوى العربي.
وإذا ما اقترنت هذه الصورة بصورة أخرى تتعلّق بأفلام الجاسوسية "الإسرائيلية" التي أنتجتها الشبكة، والتي تعزّر صورة البطل الصهيوني وتضخّمها، فإنّ دائرة الاتهام ستتسع، ويصبح السؤال: لماذا تركّز الشركة على إصدارات الجاسوسية "إسرائيليًا" وعلى إصدارات الجن والفانتازيا عربيًا؟
لو حاولنا حصر عدد أفلام الرعب وعوالم الجن والفانتازيا العربية سنجد أنها قليلة جدًا مقارنة بالأفلام العربية التي تناولت شتى مناحي الحياة الواقعية، وقد بدأت في السنوات الأخيرة عدة محاولات لإنتاج أفلام ومسلسلات من هذا النوع، وقد جاء أغلب هذه المحاولات غير موفق ويفتقر إلى الإقناع، كما بدت هذه المحاولات مجرد محاكاة رديئة للأفلام الأجنبية، لذلك يشكّل هذا الباب لشركة نتفليكس سوقًا بكرًا يُدر عليها الأرباح الطائلة، وهذا ما أثبته مسلسل "ما وراء الطبيعة" الذي حقق نسبة مشاهدة عالية جدًا، ليس على مستوى الوطن العربي فقط بل على مستوى دول العالم -حسب ما أعلن المخرج عبر توتير- مثل فرنسا والنمسا وتركيا والهند..إلخ.
من ناحية أخرى، ورغم أن هذه الأعمال تلقى الاستسخاف والسخرية على المستوى الثقافي الواعي، فإنّ نسبة كبيرة من الناس في العالم العربي -على أرض الواقع- تؤمن بوجود هذه العوالم الخارقة للطبيعة ولا تزال أساطير مثل (أبو رجل مسلوخة) والندّاهة ومس الجان تلقى قبولاً في الشارع العربي، إضافة إلى أن التراث العربي يتكئ على رصيد هائل من قصص الجان والخرافات، وأبرز مثال على ذلك كتاب "ألف ليلة وليلة"، وهو رصيد يجعل شركة مثل نتفليكس تخصص أموالاً طائلة لاستثماره وتحقيق الأرباح من ورائه، خاصة بعد أن أهمله المُنتِج العربي طويلا.
وفي المقابل، فإنّ هاجس الربح والاستثمار يقف وراء أفلام الجاسوسية أيضًا؛ فنفخ صورة الذات القومية أكثر ما تحتاجه الشخصية الصهيونية لمواجهة واقع تشعر فيه بالاغتراب وباهتزاز الثقة، يقابل ذلك نفوذ الشركات اليهودية وتأثير تمويلها في توجيه السينما العالمية، وسعي شركات الإنتاج السينمائي لإرضائها والحصول على تمويلها.
سبب آخر دفعَ ناشطي وسائل التواصل الاجتماعي للهجوم على المسلسل قبل أن يبدأ عرضه؛ ويتمثّل هذا السبب في قيام مخرج المسلسل عمرو سلامة بتوجيه تعليمات -عبر حسابه الشخصي- للمشاهدين حول كيفية وجوب مشاهدة المسلسل، وهي خطوة اعتبرها كثيرون استعلاء على المشاهدين، وعلى الرغم من أنّ لغة سلامة كانت مغلّفة بروح الدعابة فقد لاقت التعليمات التي نشرها، بوصفها الخطوات الصحيحة لمشاهدة المسلسل، ردّةَ فعلٍ غاضبة من المشاهدين بشكل عام.
يدور المسلسل حول المغامرات التي تحدث مع الدكتور رفعت إسماعيل، وهو دكتور طبيب مختص بأمراض الدم، وهو رجل يؤمن بالعلم ويرفض الاعتراف بكل ما يتعلّق بعالم ما وراء الطبيعة، لكنّ الأحداث التي تدخل حياته وحياة أسرته تجعله ينغمس في هذا العالم دفاعًا عن حياته وحياة المقربين منه.
اقرأ أيضا : تسريب "ما وراء الطبيعة" خارج "نتفلكس".. أول عمل مصري
قام الفنّان أحمد أمين بدور الدكتور رفعت وأتقن أداء هذا الدور المعقّد بدرجة عالية، الأمر الذي يجعل المشاهد/ القارئ لروايات أحمد خالد توفيق لا يتخيّل هذه الشخصية خارج إطار صورة التي جسّدها أحمد أمين، وهي شخصية أستاذ جامعي انطوائي وخجول يعبّر عن نفسه بطريقة تخالف رغباته وعواطفه، فقد أضاع خمسة عشر عامًا من عمره وهو عاجز عن الاعتراف بحبه لـ "ماجي" الفتاة الأجنبية التي كانت زميلته أيام الدراسة، وحينما جاءت إلى مصر وشاركته مغامراته عجز مرة أخرى عن الاعتراف لها بهذا الحب المكبوت.
على العكس من التجارب العربية السابقة في صناعة الفانتازيا والرعب، اتسم هذا المسلسل بالإقناع وعدم الافتعال؛ فالمشاهِد يجد نفسه منجذِبًا لأحداث المسلسل ومتابعًا لها ومندمجًا في أساطيرها الست التي توزّعت على حلقات بعددها (أسطورة البيت، وأسطورة لعنة الفرعون، وأسطورة حارس الكهف، وأسطورة الندّاهة، وأسطورة الجاثوم، وأسطورة العودة للبيت).
إنّ هذا اللّون من الإنتاج لا يزال مرفوضًا من قبل النخبة العربية المثقفة في الأدب والسينما؛ فالمبدع العربي يعد نفسه حارسا للعقل الجمعي ويميّز ذاته عن العامة بإيمانه بالعلم وبقدرته على تحليل الواقع، لذلك فهو يرى أن واجبه أن يحارب كل ما يتناقض مع جدية الطرح الإبداعي، فإذا كانت العامة تؤمن بالخرافات وعالم الخوارق فإن وجود إبداع يمثّل هذا الإيمان ويعبّر عنه بجعل هذا الإبداع رخيصًا غايته الربح والتسويق، مثلما يخلو من أي رسالة جادة يمكن أن يؤديها غير التشويق والتسلية.
لذلك يهاجم كثير من المثقفين روايات أحمد مراد دون أن يكلفوا أنفسهم عناء قراءتها، بل إنّ كثيرًا من الروائيين الذين يسخرون من هذا اللون في الكتابة والسينما قدموا أعمالاً رديئة تخلو من أي سمة إبداعية، وإذا كانت كتابات أحمد خالد توفيق تُعد استثناءً بسبب ارتباطها بطفولة كثير من الكتّاب والقرّاء، فإنّ أغلب المثقفين العرب يعدون ميزة توفيق الوحيدة أن شجّع الكثير من المراهقين على القراءة.
ليس من بين أهداف هذا المقال الدفاع عن هذا اللون من الإبداع في الأدب والسينما، غير أنّ الفكرة الأساسية التي يرغب المقال بطرحها تكمن في أنّ الموضوع لا يمكن أن يكون عائقًا أمام الإبداع الحقيقي، وأنّ المحك يكون في كيفية معالجة الموضوع، فهناك الكثير من الروايات والأفلام التي تناولت الخوارق والفانتازيا موضوعًا لها وتربعت على عرش الإبداع العالمي، وكي نصل إلى هذا المستوى يجب أن نفتح باب التجريب والمغامرة على مصراعيه.