تُؤشر مُجمل التطورات التي واكبت الاقتراع الرئاسي الأمريكي في 3 تشرين الثاني/ نوفمبر 2020 إلى أن مغادرة "
دونالد ترامب" البيت الأبيض لا تعدو أن تكون مسألة وقت، وأن حملة التشكيك والطعن في شرعية النتائج التي حصل عليها منافسه "جو
بايدن" فشلت، ولم تجد استجابة حقيقية من قبل مؤسسات القضاء الأمريكي الفيدرالي، وعلى صعيد الولايات المتنازع حول نتائجها.
والواقع أن اقتراع الرئيس السادس والأربعين للولايات المتحدة الأمريكية كشف عن كثير من المعطيات، لم تشهد تجارب الانتخابات الرئاسية السابقة نظيرا لها، من حيث عمر المرشحين معاً، ونسبة مشاركة المواطنين في الاقتراع، وحدّة اللغة المستعملة في الحملات الانتخابية، لا سيما خلال المناظرة الرئاسية الأولى، وطريقة التصويت المبكر في زمن كورونا، والتجاذب الكبير الذي أعقب فرز النتائج، خصوصا من جانب الحزب الجمهوري بقيادة "دونالد
ترامب".
جدير بالتذكير أن فوز "ترامب" عام 2016، والأجواء التي واكبت تنصيبه، والشروع في ممارسة مهامه الرئاسية، كانت قد خيمت بظلالها على الحياة السياسية الأمريكية، ودفعت بالكثير من المحللين والمتابعين للشأن الأمريكي إلى تقديم أكثر من مشهد عن تطور ولاية حكم "ترامب"، ونوعية التأثيرات التي ستترتب على أداء الرئيس الخامس والأربعين، بالنسبة لسياسات أمريكا تجاه العالم، وفي علاقتها بدوائر حساسة في أولويات أمريكا الحيوية والاستراتيجية. لنتذكر أن استطلاعات الراي داخل أمريكا لم تمنح الرئيس المنتخب "ترامب" وقتئذ أكثر من 40 في المائة من تأييد المواطنين له، نظير 82 في المائة لنظيره "باراك أوباما"، و62 في المائة لـ"جورج بوش الابن". وإذا أضفنا إلى كل هذا موجة المظاهرات التي عمّت التراب الأمريكي، وعواصم كثيرة في العالم، عقب حفل التنصيب، ندرك طبيعة التعقيدات، وربما الأزمات، التي كانت مرشحة أن تشهدها العلاقات الدولية خلال حقبة حكم الرئيس "دونالد ترامب".
لا شك أن الخلفية التي قَدِم منها الرئيس الأمريكي المنتخب تضغط على نوع التخوفات المعبرة عنها في مختلف بقاع العالمة وقتئذ. فـ"ترامب" رجل أعمال، حالفَه النجاح كما خذله الفشل، وهو بحكم مهنته سجينُ منطق إدارة الشركات، وليس مُشبعاً بثقافة تدبير الشأن العام، فبالأحرى قيادة دولة عُظمى بَنت مَجدها على هاجس "زعامة العالم"، والتحكم في توجيه دواليبه. لذلك، كان ردّ فعل ألمانيا قوياً وواضحاً، حين شددت في حينه مُستشارتُها إلى نزعة العزلة التي يدعو إليها "دونالد ترامب"، والجنوح نحو الانغلاق والانطواء على الذات.. كما نبهت أوروبا إلى ما يمكن أن يترتب عن هذه الرؤية الجديدة في
السياسة الخارجية الأمريكية من آثار وخيمة، لا سيما إذا أضيفت إلى حدث خروج بريطانيا من منظومة الاتحاد الأوروبي تدريجيا، كما حصل مع سنة 2018.
والحقيقة، أكدت أحداث كثيرة رجاحة هذه التخوفات، وصدقية تحققها في الواقع، فقد خرجت أمريكا خلال ولاية "ترامب" من أكثر من اتفاقية دولية جماعية بالغة الأهمية (المناخ،
الملف النووي الإيراني، النافتا)، كما دخلت في مشاكسات مع الصين أولا، ومع روسيا، وأصيبت علاقاتها مع أوروبا بالفتور والبرودة، علاوة على إقدامها على سياسات جديدة في الشرق الأوسط، لم يستطع أي رئيس أمريكي سابق على الأقدام عليها (نقل السفارة الأمريكية إلى القديس، وإطلاق حملة التطبيع مع إسرائيل).
حقق الرئيس "ترامب" خلال السنوات الثلاث الأولى من ولايته إنجازات واضحة ومقنعة بالنسبة للأمريكيين في مجالات الاقتصاد، وخلق فرص الشغل، وتقليص حجم البطالة، وجلب الاستثمارات الأجنبية، وضخّ أموال ضخمة منتزعة من أرصدة دول عربية نفطية، غير أن دخول جائحة "كورونا" وامتدادها في كل دول العالم مع بداية العام 2020، أوقف نجاحات "ترامب"، وأرجعها إلى ما يشبه نقطة الصفر، حيث انكمش الاقتصاد الأمريكي، وتراجعت معدلات نموه، وعمّ الفقر شرائح واسعة من مجتمعه، وفتك الوباء بملايين الناس من مختلف الأعمار، وتعاظمت موجة التمييز العنصري وكره الأجانب، والابتعاد عن القيم الأصيلة التي بُني على أساسها المجتمع الأمريكي. لذلك، يمكن التأكيد، دون تردد، بأن التصويت لغير صالح "ترامب" في اقتراع 3 تشرين الثاني/ نوفمبر 2020، كان يروم البحث عن اختيار بديل للرئيس "ترامب"، يستطيع إرجاع القطار الأمريكي إلى سكته الطبيعية، فكان "جو بايدن"، الذي يكبر "ترامب" سنّا، ويُؤخذ عليه طابعه الهادئ إلى حدّ البرودة.
يُنتظر في الأيام القليلة القادمة أن تنتهي حملة التشكيك في شرعية انتخاب "جو بايدن"، خصوصا وأن القضاء قال كلمته في حيثيات التنازع الحاصل حول نتائج ولايات حسمت معركة الاقتراع الرئاسي، كما سيكون تاريخ 20 كانون الثاني/ يناير القادم (2021) لحظة خروج "ترامب" من البيت الأبيض، ودخول الديمقراطيين إلى
مطبخ صُنع السياسة الأمريكية بشقيها الداخلي والخارجي.
ومن المنتظر أن
تسعى القيادة الديمقراطية الجديدة إلى استعادة "روح أمريكا" التي شرعت في التراجع التدريجي في عهد "ترامب"، بالتواصل المتوازن مع العالم، وإعمال العقل في السياسة، عوض المزاج ومنطق "البيع والشراء"، وإشاعة قيم الاحتقار والكراهية والتمييز بين الشعوب والأمم، والمكونات الأصيلة بداخل المجتمع الأمريكي. صحيح أن القضايا الاستراتيجية، وذات البعد الحيوي بالنسبة للأمن القومي الأمريكي لن تُمس جوهريا بخروج "ترامب"، لكن الراجح جدا أن "جو بايدن" سيُعيد للولايات المتحدة الأمريكية الكثير مما فقدته خلال ولاية الرئيس "ترامب".