لا شكّ في أنّ الأنظمة
الديمقراطيّة الغربيّة -ومعها إسرائيل- تعرّت في السنوات الماضية. والدولة
العبريّة لم تكن يوما دولة ديموقراطيّة بحق، بحكم التقييدات والتمييز الذي لحق
بإنشاء الكيان المبني على طرد السكّان الأصليّين، والتعامل مع الأقليّة العربيّة
المتبقية (والتي كان السماح لها بالبقاء من ضرورات تصدير زيف النموذج الصهيوني).
لكنّ الأنظمة الغربيّة روّجت لنفسها، في سنوات الحرب الباردة، على أنّها النموذج
المحتذى الذي يكتمل باقتفائه التاريخ الإنساني.
وصاحبَ تجربة الديموقراطيّات
الغربيّة بعد الحرب العالمية الثانية، الحاجة إلى بروباغندا مؤثِّرة ضدّ
الشيوعيّة، فتحوّل نظام الانتخابات الدوريّة (مع حريّة محدودة للأحزاب والمناظرة
الانتخابية) إلى عقيدة مؤثّرة تسلب العقول وتزرع إيمانا دينيّا بقدرة
الديموقراطيّة (الشكلية) على حلّ كلّ مشاكل المجتمع: هل يختلف شعار الإسلاميّين
(القديم، لأنّه فقد جاذبيّته) «الإسلام هو الحل» عن الشعار الليبرالي الرائج، الذي
يختم به علاء الأسواني مقالاته، «الديموقراطيّة هي الحلّ»؟ وكما أنّ الشعار
الإسلامي يفتقر إلى حلول خارج الشعار العاطفي، فإنّ شعار الديموقراطيّة لا يبدو
أنّه يقدّم حلّا بناء على الأزمات المتعصّبة في الدول الغربيّة.
يميّز الكتّاب الغربيّون بين
الديموقراطيّات الغربيّة والديموقراطيات غير الليبراليّة في الغرب (مثل كتاب آن
أبلباوم الأخير، «غسق الديموقراطيّة: جذب التسلّطية المغري» - والمؤلّفة من عتاة
أعداء الشيوعيّين، وهي لا تزال تلوم لينين على ما لحق بالكوكب من ظلم وتسلّط). وهم
بذلك يلحظون ظواهر مثل فكتور أوربان في المجر، أو ياروسلاف كاجنسكي في بولنده
(وحتى بنيامين نتنياهو في إسرائيل) ويعتبرونها مغايرة للديموقراطيّة الحقّة. لكن
النوازع غير الليبراليّة في الديموقراطيّات الغربيّة ليست جديدة.
الرئيس روزفلت حكم حكما
مطلقا وسيطرَ على مختلف السلطات، بما فيها السلطة القضائيّة التي هدّدَ محكمتها
العليا بحشر أعضاء جدد موالين له فيها، لو هم لم ينصاعوا في الموافقة على تشريعاته
(في فترة حكمه لم يكن الكونغرس إلا منفّذا لرغباته التشريعيّة). والحكم في أميركا،
خلال سنوات الحرب العالمية الأولى والثانية، كان حكما بوليسيّا فدراليّا يحيل
بتهمة التخوين مَن يرفع صوته ضدّ سياسات حربيّة (وتعرّض الأميركيّون من أصل ألماني
لظلم فظيع في الحرب العالمية الأولى، كما تعرّض الأميركيّون من أصل ياباني لظلم
فظيع في الحرب العالمية الثانية).
الرئيس الأميركي، ثيودور
روزفلت، لاحظ ذلك في مطلع القرن العشرين، وعلّق قائلا إنّ الواجب الوطني يكون
بالامتناع عن الامتثال لفرض طاعة الرئيس، خصوصا في سنوات الحرب. وباسم مكافحة
الشيوعيّة، فرضت ديموقراطيّات الغرب ضوابط غير ديموقراطيّة لمنع الشيوعيّين من
الفوز، ولو اقتراعيّا في تلك الدول: من الإنفاق الأميركي (والسعودي) الهائل في
إيطاليا لمنع فوز الحزب الشيوعي هناك، إلى الحروب المتنوّعة ضد الشيوعيّة
والشيوعيّين في أميركا (يختصر مصطلح الـ»مكارثيّة» تجربة بدأت قبل السناتور جو مكارثي
واستمرّت بعده لسنوات طويلة). وحدها الديموقراطيّات الإسكندنافية حاولت أن تختطّ
نظاما يزاوج بين الديموقراطيّة الاجتماعيّة وشكل الديموقراطيّة البورجوازيّة. ولم
يكن هناك إجماع في دول الغرب على أحقّية نموذج الديموقراطيّة الاجتماعيّة المتطرّف
- بنظر الديموقراطيّات الغربيّة الأساسيّة التي قرّرت مصير التحالف الغربي ضد
الشيوعيّة.
أدّى انهيار الاتحاد السوفياتي إلى تقلّص
الحريّات في دول الغرب لأسباب عديدة. ليس الأمر يتعلّق فقط بزوال الأسباب
الدعائيّة التي كانت تجعل دول الغرب تبالغ في إظهار محاسن أنظمتها. وهذا الجانب لم
يخفّف من وقاحة ديموقراطيّات الغرب في الترويج لنماذجها: الحكومة الأميركيّة كانت
تضخّ الدعاية السياسيّة عن الحريّات في أرجائها، فيما كانت الشرطة الأميركيّة
تواجه المحتجّين السود في معظم ولايات الجنوب، وكان حضور طالبة سوداء إلى جامعة
مختلطة يتطلّب إرسال الجيش إلى جورجيا أو ألاباما، لأنّ الأكثرية البيضاء كانت
تعترض على تنفيذ حكم قضائي في رفع الحظر عن الخلط الاجتماعي العرقي. وترافق انهيار
الاتحاد السوفياتي مع موجات من الهجرة من دول متعدّدة ومن أزمات اقتصاديّة، لم تعد
البروباغندا الرأسماليّة قادرة على إخفائها. الفروقات الطبقية ازدادت عبر العقود،
وحصّة النخبة الثريّة من الثروة الوطنيّة ازدادت، فيما انحدر مستوى معيشة الطبقة
الوسطى في معظم دول الغرب الرأسمالية، ولم تعد الشهادة الجامعيّة - ولا حتى شهادة
الدكتوراه - ضمانة للترقّي الاجتماعي.
والحرب على الإرهاب سمحت
لدول الغرب بتقييد الحريّات ومحاربة الفقراء والمهاجرين بحجّة الأمن. والأكثريّة
العرقيّة والإثنيّة تحبّذ زيادة القمع البوليسي، لعلمها أنّ القمع سيطال فئات دون
غيرها.
لم يكن - أو ليس - دونالد ترامب حالة عابرة،
كما أنّ حركة اليمين العنصري الإسلاموفوبي ليست حالة عابرة في أوروبا. ترامب هو
نتاج حالة تعتمل في صفّ الجمهوريّين والمحافظين غير التقليديّين، منذ انتخاب باراك
أوباما في عام 2008، وظهور «حزب الشاي». وظهور مرشحة نائبة الرئاسة، سارة بالين،
في قائمة جون ماكّين في العام ذاته، أطلق العنان للجمهور الذي وجد في ترامب
ضالّته. ترامب لم يكن يوما عقائديّا، وهو أقرب في أهوائه من الديموقراطيّين
المحافظين أو الجمهوريّين الليبرتاريّين: أي ليبرالي في القضايا الاجتماعيّة
ومحافظ في القضايا الاقتصاديّة. وحكما لا يريد الأثرياء توزيع الثروة لإحداث تعديل
طفيف في نسب العدل الاجتماعي. إنّ «حزب الشاي» لم يجد زعيمه، وسارة بالين تحوّلت
إلى نجمة تلفزيونية، ولم تحسن قيادة الحركة الشعبيّة المحافظة.
أمّا معالم أو منطلقات الحركة المحافظة
الجديدة التي تمرّدت على الحزب الجمهوري، فتتمثّل في الاعتراض على النتائج
السياسيّة للتغيّر الديموغرافي الهائل لمصلحة الملوّنين. لم يفقد البيض حظوتهم في
الاقتصاد أو المجتمع أو النظام السياسي، لكن هناك خوف حقيقي من نتائج ارتفاع نسبة
المهاجرين غير البيض في السكّان. كذلك، فإنّ ثقافة الليبراليّة التعدّدية القائلة
بالتنوّع تستفز العنصريّين البيض. كما أنّ لهجة الليبراليّة الديموقراطيّة نخبويّة
طبقيّا وتتعامل مع الفقراء (من كلّ الألوان) باستعلاء ثقافي واضح. والحلول
الاجتماعيّة بين الحزبين تركت حالة من عدم الاستقرار المعيشي عند العمّال
الصناعيّين. هؤلاء البيض الذين يفتقرون إلى شهادة جامعيّة، ولا يستطيعون دخول
وظائف التكنولوجيا والاتصال الحديثة تحوّلوا نحو الحزب الجمهوري الغاضب.
إنّ الحالة الترامبيّة خطرة على صورة الحكومة
الأميركية وعلى مصالحها الإمبراطورية. لعب تدخّل أجهزة الاستخبارات الصفيق في
الانتخابات الأخيرة، وتعاونها العلني مع وسائل الإعلام التقليدية لإسقاط ترامب،
دورا في ترجيح كفّة جو بايدن. ليس ترامب مصابا بالجنون عندما يرغي ويزبد في اتهام
خصومه بتزوير الانتخابات. هذه الانتخابات كانت بالفعل مزوّرة، لكن ليس بالصورة
التي يرسمها ترامب، عن إهمال أصوات كانت في مصلحته وزيادة مصطنعة في عدد أصوات
بايدن (لكن، كما تساءل تلميذ لي بعد الانتخابات، هل يمكن استبعاد إمكانيّة ارتكاب
«أعمال قذرة» من قبل أجهزة استخبارات متمرّسة في تعطيل انتخابات أو تقرير نتائجها
في دول العالم الثالث؟). إنّ الحملة الإعلامية المستمرّة من دون هوادة، منذ انتخاب
ترامب، كانت مرسومة من أجهزة الاستخبارات والقيادة العسكريّة، أكثر ممّا كانت
تُرسم في غرف الأخبار في الصحف الكبرى. بات لأجهزة الاستخبارات كتّاب عواميد (وليس
هذا بالجديد، طبعا): مقالات ديفيد أغناطيوس في «واشنطن بوست» ليست إلا منبرا
لأجهزة الاستخبارات الأميركيّة لتؤثّر في النقاش العام، في الكونغرس وخارجه.
وكلّ التسريبات التي حوَتها
صفحات «نيويورك تايمز» كانت من عمل الاستخبارات: وليس سرّا أنّ الشخص الذي سرّبَ
فحوى المكالمة بين ترامب والرئيس الأوكراني كان عضوا في الاستخبارات المركزيّة
ومنُتدبا للعمل في البيت الأبيض. وهذا التسريب أدّى إلى محاكمة الرئيس الأميركي
تمهيدا لعزله.
البلاد منقسمة طبقيّا وأيديولوجيّا وحتى
عرقيّا. الحزب الجمهوري بات حزب المزارعين سكّان الولايات القليلة الكثافة
السكّانية، فيما يحتلّ الحزب الديموقراطي الأكثريّة في الولايات المكتظّة في
الأطراف. والحزب الديموقراطي فقَد الأكثريّة البيضاء في ولايات الجنوب (حيث لم يكن
هناك وجود للعمّال الصناعيّين، الذين كانوا عماد قوّة الحزب الديموقراطي) بسبب
قانون «الحقوق المدنيّة»، في عام 1964، الذي أغاظ البيض وأنهى حلمهم في الافتراق
العرقي.
تحوّل الحزب الجمهوري إلى
حزب النقمة البيضاء، ضدّ حزب يستحوذ على تأييد السود واللاتينيّين والآسيويّين
والعرب والمسلمين والشباب والنساء من الملوّنات (ليس صحيحا أنّ الحزب الديموقراطي
يحظى بتأييد غالبيّة النساء بالمطلق: هو يستحوذ على تأييد معظم النساء، لكن بين
البيض فإنّ ترامب حاز تأييد النساء بتسع نقاط مقارنة ببايدن). لكن هناك الجانب
النخبوي أيضا: الحزب الديموقراطي يستحوذ على تأييد المتعلّمين الجامعيّين وسكّان
المدن الكوزمبوليتيّة، فيما يجد الحزب الجمهوري تأييده الكبير من حملة شهادات
الثانويّة (أو ما دون) وبين العمّال الفقراء والبيض الذكور بصورة عامّة (وليس
صحيحا النظرة النمطيّة أنّ الحزب الجمهوري يمثّل الأثرياء: فالأثرياء يتوزّعون بين
الحزبَيْن، والشركات الكبرى كانت أميَل إلى بايدن لأنّها رأت فيه استقرارا للمصالح
الأميركيّة. وليس صدفة أنّ مستشار ترامب للشؤون الاقتصاديّة، لاري كدلو، هنّأ
جانيت يلن على اختيارها وزيرة خزانة في حكومة بايدن، واعتبر أنّ ذلك مُطمئِن
لـ»وول ستريت».
ويقول وزير العمل في حكومة
بيل كلينتون، روبرت رايخ، في كتابه «موصد في الحكومة» عن تجربته، أنّه لم يرَ في
حياته هذا الاهتمام في كلّ نقاش حكومي بموقف أو رد فعل «الشارع»، في إشارة إلى
المصالح المالية الكبرى في «وول ستريت»، والتي كان كلينتون شديد الحرص على أخذها
في عين الاعتبار في قراراته).
ترامب لم يكن يوما عقائديّا وهو أقرب في
أهوائه من الديموقراطيّين المحافظين أو الجمهوريّين الليبرتاريّين
صحيح أنّ الجمهوريّين يحسّنون تمثيلهم عبر ما
يسمّى «جيريماندرينغ» (ويعود الأصل الايتمولوجي للكلمة إلى أوائل القرن التاسع
عشر، وهي تشير إلى الرسم المُغرِض للدوائر الانتخابيّة لخدمة غرض حزب أو عرق ما في
التمثيل). ورسم الدوائر الانتخابيّة يحدّد الفائز إلى حدّ كبير - يعلم وليد جنبلاط
عن هذا الكثير، إذ إنه كان بالتنسيق مع المخابرات السوريّة يرسم الدوائر
الانتخابيّة في الجبل بطريقة تضمن له كتلة مضخّمة. لا يعلم الجمهور العربي أنّ
النتائج في انتخابات الكونغرس تكون معروفة مسبقا، ولا يكون هناك لغز حول نتائج
الانتخابات إلّا في عدد قليل جدا من المقاعد. ويحقّ للأكثريّة في المجالس الاشتراعيّة
في الولايات رسم الدوائر الانتخابيّة على هواها، من دون حسيب أو رقيب (يمكن
الاعتراض للسلطة القضائيّة التي تحسم إذا ما كان رسم الدائرة هنا أو هناك يتعارض
مع الدستور، أو مع الشروط المطلوبة لرسم الدائرة).
لم تقترب أميركا من الحكم الفردي الاستبدادي كما
تقترب في هذه الحقبة. هناك حالة خوف حقيقيّة بين العامّة - أو بين أنصار الحزب
الديموقراطي وبين أهل المؤسسة الحاكمة - على استمراريّة النظام الديموقراطي. خرق
ترامب العديد من الأعراف وحتى القوانين في سنواته الأربع. لم يكن هناك ضغط سياسي
مباشر على أجهزة الاستخبارات لخدمة المصالح السياسيّة للرئيس، منذ السبعينيّات في
عهد ريتشارد نيكسون. تجنّب الرؤساء بعده إعادة الكرّة خوفا من المحاكمة والعزل.
لكنّ ترامب يتمتّع بشعبيّة فائقة بين أوساط حزبه المتراص، إلى درجة أنّه حتى الذين
يختلفون مع توجّهاته لا يجرؤون على الاعتراض أو النقد اللطيف، لأنّهم بذلك يستعدون
جمهورهم وأنصارهم الذين يؤيّدون ترامب ظالما أو مظلوما. أكثر من تسعين في المئة من
أنصار الحزب الجمهوري يؤيّدون ترامب. كما أنّ نسبة الذين أيّدوا ترامب لأنّه
ترامب، تفوق أكثر بكثير نسبة الذين أيّدوا بايدن لشخصه (نحو 54٪ صوّتوا لبايدن في
تصويت موجّه ضد ترامب). لكن هل يمكن لترامب أن يستولي على الحكم؟
نظريّا، وفعليّا، يمكن لترامب أن يمضي في غيّه
الدستوري معتمدا على المحكمة الدستوريّة العليا. وسلطات المحكمة العليا الحصريّة
في تفسير الدستور (أو ما يُسمّى «المراجعة القضائيّة» هي سلطة منتزعة ولا ترد في
الدستور، ولم تبرز إلّا في أوائل القرن التاسع عشر) تعطي صلاحية استبداديّة مطلقة
(مطلقة بمعنى أنها لا تُردّ، لا يستطيع الرئيس الأميركي ولا الكونغرس ردّ قرارات
المحكمة العليا، فيما يستطيع الرئيس الأميركي أن يردّ بفيتو على تصويت الكونغرس
على مشروع قانون، ويستطيع الكونغرس عكس الفيتو الرئاسي بأكثريّة الثلثيْن في
المجلسين، الشيوخ والنواب).
المحكمة العليا تدخّلت بصورة
صفيقة وفاعلة في تقرير مصير انتخابات عام 2000. وانقسام الشعب الأميركي إلى نصفيْن
متقاربيْن، سيزيد من حالات النتائج الانتخابيّة المتقاربة. وهذه النتائج المتقاربة
تسهم في تحويل الإشكالات والشكوك إلى المحكمة العليا في الولاية، أو هي تُرفع إلى
المحكمة العُليا الفدراليّة. أي يمكن لتسعة أشخاص في المحكمة العليا تقرير مصائر
الانتخابات الرئاسيّة.
ترامب سارع إلى تعيين بديلة في المحكمة
الفدراليّة العليا عن روث بيدر غزنبرغ، بعد وفاتها بقليل، لأنّه عوَّل على دور
فاصل للمحكمة في تقرير نتائج الانتخابات. ويستطيع الرئيس، لو أراد البقاء في
السلطة، تعيين عدد إضافي عن التسعة أعضاء في المحكمة، وذلك لدفعها إلى اتخاذ
قرارات في مصلحته السياسية. وهذا أسرع طريق للاستيلاء على السلطة بطرق قانونية (في
بولنده، حدث العكس في طريق تعزيز سلطة الحاكم، إذ إنّ حزب «القانون والعدل» قصَّ
جوانح السلطة القضائيّة). وليس هناك ما يمنع الرئيس الأميركي في أثناء ولايته (إذا
كان يتمتّع بأكثريّة في مجلس الشيوخ، الذي عليه أن يوافق على تعيينات الرئيس
للمحاكم الفدراليّة) من زيادة أعضاء المحكمة العليا. المحكمة العليا الحالية تميل
بنسبة 6-3 لصالح الجمهوريّين. فرانكلين روزفلت كان قد هدّدَ المحكمة العليا بزيادة
عدد أعضائها في حال عارضت حزمة قرارات له، وكان التهديد فعّالا، إذ ما لبثت
المحكمة أن أصبحت مطواعة، أي يمكن إجراء انقلاب دستوري عبرها.
الطريق الآخر الذي قد يشبه طريق هتلر في
الاستيلاء على السلطة الفعليّة بعد عام 1932، يحتاج إلى عنصر الشارع. وترامب يُتقن
أسلوب تفجير النظام من داخله، واستخدام التأجيج الشعبي الجماهيري للسيطرة على
مقدّرات الحزب الذي يمثّله. فاز ترامب أم لم يفز، فإنّ الحزب الجمهوري معقود
اللواء له، ما استمرّ هو في العمل السياسي. ومصير ترامب يختلف جذريّا عن مصير
رؤساء فشلوا في الفوز بولاية ثانية: جيمي كارتر انتهى منبوذا بعد خسارته في عام
1980، ولم يعد الحزب الديموقراطي يريد أن يعتمد عليه في أي انتخابات. وهكذا كان
أيضا مصير جورج بوش الأب بعد انتخابات 1992، والذي تحوّل إلى نكرة في حزبه بسبب
خسارته. ترامب يترك الرئاسة وموقعه في الحزب الجمهوري أقوى ممّا كان عليه. ولو عاد
في ولاية ثانية في عام 2024، أو لو نجح في السيطرة على الحكم لولاية ثانية بمساعدة
المحكمة العليا، فإنّه سيعمل على إعادة تشكيل المؤسّسة الحاكمة التي لم ترتح له
يوما.
تعديل الدستور صعب، لكنه غير مستحيل. يحتاج
فقط إلى سيطرة الرئيس على مجلسَيْ النواب والشيوخ، كي يضمن أكثريّة الثلثَيْن في
التعديل، ويمكن أن يكون التعديل جذريّا، مثل تعطيل التعديل الثاني والعشرين الذي
يمنع أي رئيس من تولّي منصب الرئاسة لأكثر من ولايتيْن. يكفي تعطيل هذه المادّة،
كي يضمن رئيس معيَّن دوام الحكم لأكثر من ولايَتيْن: لكنّ التعديل الدستوري يتطلّب
مرحلة ثانية، وهي الحصول على تأييد أكثريّة ثلاثة أرباع المجالس الاشتراعيّة في
الولايات (أي 38 ولاية من أصل خمسين). قد يكون ذلك صعبا، لكنّ شخص ترامب يستطيع أن
يجترح معجزات انتخابيّة.
والحزب الجمهوري بفعل رسم
الدوائر الانتخابيّة ضخّم من تمثيله الاشتراعي بنسبة تفوق حجم تأييده بين السكّان
(وفي فهم الصراع بين الجمهوريّين والديموقراطيّين تجوز المقارنة بين 8 آذار و14
آذار في لبنان، حيث الأولى جزعة ومتردّدة وخائفة دوما من فتنة أهليّة، فيما
الثانية بارعة في الإعلام والبروباغندا وفي الإقدام والمغامرة ودفع الأمور إلى
الأمام ولو نحو فتنة أهليّة). ونسبة سيطرة الحزب الجمهوري على المجالس الاشتراعيّة
المحليّة (المجالس الاشتراعيّة هي مجلس نواب محلي خاص بالولاية ومجلس شيوخ، فيما
وحدها ولاية نبراسكا لا يوجد فيها إلا مجلس واحد) تبلغ مستوى قياسيّا، إذ إنّ
لديهم 59٪ من مجمل الولايات.
ورقم الستين في المئة، ليس
بعيدا كثيرا عن رقم الثلاثة أرباع - ومتى بلغت النسبة لحزب واحد ذلك الرقم، إضافة
إلى السيطرة على مجلسَيْ النواب والشيوخ، فيمكن حينها تغيير النظام السياسي
برمّته. ولو تسنّى ذلك لترامب، فإنّ حكم البلاد سيتغيّر جذريّا وسيكون نصف البلاد
في صفّه. ويستطيع عندها ترامب، أو غيره، إعلان نفسه حاكما مدى الحياة للبلاد.
وترامب، مثله مثل أسلافه في الحكم منذ الحرب العالميّة الثانية، استطاب الحكم من
خلال مراسيم اشتراعيّة يخوّلها الدستور له، من دون تحديد صريح.
ليس هذا السيناريو خياليا البتّة. تغيّرت
أميركا كثيرا عمّا كانت عليه في عام 1983 عندما قدمتُ إليها. كنتُ أغتاظ مرّة كلّ
أربع سنوات عندما كنت أسمع المعلّقين في كلّ المحطات التلفزيونيّة وهم يقولون
بزهو: فقط في أميركا هناك انتقال سلس وسلمي للسلطة ومن دون نزول دبّابات إلى
الشوارع. كنتُ أصرخ قائلا: لا، ليس هذا البلد الوحيد في العالم حيث هناك انتقال
سلمي للسلطة.
ودائما أذكّرهم بأن انتخابات
1970 في لبنان كانت بفارق صوت واحد فقط، وحدث قبول للنتيجة من قبل الخاسر، إلياس
سركيس (طبعا، لا أقول لهم ما أعرفه عن تلك الانتخابات التي عاصرها والدي عن كثب:
إنّ أنصار سليمان فرنجية المسلّحين كانوا يزنّرون منطقة المجلس وكانوا على استعداد
لاستعمال القوّة إذا لم يُعلن فرنجيّة رئيسا - ومن المعروف أنّ صبري حمادة لم يكن
يريد إعلان فوز فرنجيّة لأنه توقّع نتيجة مختلفة، لكن نائبا غيّرَ صوته في اللحظة
الأخيرة بناء على رشوة، وهناك تكهّنات عديدة حول شخصيّة هذا الرجل، وقد دخل في
حينه مبلغ نصف مليون ليرة لتغيير وجهة الاقتراع لذلك النائب).
أميركا تذكّرني كثيرا هذه الأيّام بلبنان في
عام 1975. والتسليح هنا ليس كما كان في ذلك العام في لبنان، محصورا بجهة انعزاليّة
واحدة. والإقبال على شراء السلاح زاد في سنة الـ»كورونا». وسيناريو الانقلاب
الدستوري لم يعد خياليّا، كما سيناريو الحرب الأهلية.
(عن صحيفة الأخبار اللبنانية)