لا شكوى من قلة الاهتمام
باليوم العالمي للغة العربية، بل على العكس. هناك تنافس في التبجيل والتعبير عن
الحب. ونمت في السنوات الأخيرة موجة عاطفية، ولم تبق مؤسسة أو مدرسة أو جامعة إلا
وانخرطت في هذا اليوم، استشعارا من الجميع بأن التقصير بلغ مرحلة الخطر. لكن
النتائج باهتة، والمستوى التعليمي ينحدر بسرعة قياسية. وباستثناء بعض المشروعات
الرسمية التي تحاول أن ترمم ما فسد، فإن المبادرات حماسية، وتعبر عن حسن نية، أكثر
مما بمقدورها أن تنعش حياة في جسد مريض.
وشيء من العلة هو في الاستمرار بتحفيظ قواعد
النحو والصرف، كما لُقنّا إياها صغارا، كوسيلة فضلى لخدمة العربية. وكلما تمادى
الضعف، زيدت الجرعات، وأثقل كاهل الطلاب، وتدنى المستوى. ويبقى التلميذ يتعلم من
الصفوف الأولى إلى أن يتخرج، الدروس نفسها مكررة وموسعة، وأحيانا مع الأمثلة
ذاتها، وينتهي إلى ارتكاب أخطاء مميتة في القواعد والإملاء، ويكتب جملا ركيكة، بل
غير مفهومة، ويستخدم كلمات لا يفقه معناها، ومفاهيم لا يعرف مغزاها، وهذا شائع
وكثير.
ما الذي يدور في ذهن طالب جامعي في الأدب العربي،
كي يذّكر المؤنث، ويؤنث المذكر، ولا يميز بين التاء المفتوحة والمربوطة، بعد 12
سنة من التعليم. وكيف يمكن له أن يكتب أن «المدونة الإلكترونية ولدت في القرن
التاسع عشر»، وآخر يرجعها إلى جان جاك روسو، وغيرهما يرى أنها ولدت مع بداية الحرب
العالمية الأولى. هذا ببساطة لأنه لا يعرف عما يتكلم. وستجد من يحدثك عن افتتاح
دور السينما ومقاهي الإنترنت في العصر العباسي. أو عن العراق الذي تحده مصر شرقا
واليمن غربا. وهذا غيض من فيض، ما يمكن أن تقرأه في كراريس الامتحانات الجامعية في
الدول العربية. وهؤلاء في النهاية يتخرجون ويصبحون أساتذة، مع أن هذا النوع من
الإجابات يقترن بجمل ركيكة، ومفككة.
نظرتنا إلى اللغة مبتورة، نعتقد أنها مجموعة
من الرموز والإشارات المرتبط بعضها ببعض بمنطق رياضي يكفي أن نتعلم أصوله ونحفظه.
وقليلا ما ننتبه إلى أن اللغة هي مرآة الفكر، وانعكاس الوعي. وقد تكون اللغة هي
الفكر غير منفصلة عنه. وهي نتاج رحلة إنسانية خاضتها الأمة طوال 1500 سنة.
وبالتالي تصلنا محملة معانيها وخلفياتها بكل تلك التجارب. وأن أتكلم العربية أو
الروسية، معناه أنني أنطق بإرث يتوجب على الأقل أن أكون على دراية مقبولة بماهيته،
وأهم محطاته.
وثمة من يميل إلى أن اختلاف اللغة يؤدي إلى
اختلاف في نمط التفكير. فعند متحدث اللغة الصينية «الماندراين» مفهوم الوقت مختلف
عنه عند متحدث اللغة الإنجليزية. وفي الروسية الأزرق الفاتح أو الغامق لا تستخدم
لتعيينهما كلمة واحدة، بل كلمتان متباينتان تماما، ما يجعل الفرق بينهما أوضح.
وحين نتحدث عن «الأدب» بالعربية، ففي الذاكرة الجمعية ثمة مأدبة، وجمع، ومشاركة،
بينما «ليترتشر» بالإنجليزية تحيل إلى حروف، وكلمات، وربما جمل. ومع ذلك نستخدمهما
كمعنيين متطابقين. ومن لا يرى الخلفيات التي تحيل إليها الكلمات في اللاوعي، ويظن
أن الترجمة وحدها تكفي لنقل المعنى، فهو حتما مخطئ. فكل لغة لها محاملها، ولها
وعيها وأبعاد مفاهيمها التي تجعل إنسانها مختلفا. فحين يشرح أستاذ اللغة العربية
لطلابه معنى لفظة «ثقافة»، وجذرها «ثقف» فهو يحيلهم إلى تقويم الاعوجاج، وإصلاح
الالتواء، والتدرب على الصقل والنحت. أما في اللغات اللاتينية، فالطالب يعود بذهنه
مع كلمة «كالتشر» إلى الزراعة والصبر والحصاد. والعملان المختلفان لا يؤديان في
ذهن المتعلم إلى النتيجة ذاتها.
في لبنان، وربما دول عربية أخرى، يتعلم الطلاب
المواد العلمية بلغة أجنبية، فهم بالتالي في غربة عن أنفسهم. والجزء الإنساني من
المنهاج ليست له كفاءة إيصال المعرفة المطلوبة مترابطة بحيث تشكل رؤية متكاملة
وواضحة في ذهن التلميذ. النتيجة أن خط الزمن التاريخي يبقى متشظيا، والطلاب يعانون
تشويشا شديدا في فهم ما حدث، وبالتالي ما يحدث حولهم، فكيف سيكون تعبيرهم عنه.
اللغة ليست مجرد تعبير عما يدور في الذهن
بطريقة بسيطة، وهذا ما لا نزال نخفق في تعليمه لتلامذتنا، بل لها وظيفة أهم، هي
توليد الأفكار، وذاك هو الهدف الأسمى الذي يتوجب بلوغه. هذا رأي للكاتب الألماني
هاينريش فون كلايست، أن اللغة هي بالفعل طريقة لخلق الأفكار عندما تصبح عملية،
وليست مجرد مخزون نعيده ونكرره. ففي مراحل متقدمة تصبح لغة الإنسان موازية لقوة
الفكر نفسه. وتلك هي لغة الشعراء والأدباء. وهذه القدرة على التفكير من خلال
الكلمات هي التي جعلت خطباء عظماء، يقودون التاريخ، للأفضل أو للأسوأ.
لا يزال علماء العربية يتساءلون عن سبب ضمور
المحتوى العربي على الإنترنت، الذي كان منذ سنوات لا يتعدى 3 في المائة، وغالبيته
على وسائل التواصل، ومعظمه أيضا يعتمد على القص واللصق لا على التأليف والإبداع.
فكيف لك وأنت لا تملك زمام المعنى وأدوات التعبير عنه، أن تصبح مبدعا. فأمة الـ400
مليون نسمة، ما تكتبه أقرب إلى التكرار، لا إلى الابتكار، ما يجعله غير مغر
لقراءته، ولا فتنة فيه لأصحاب اللغات الأخرى لطلبه وترجمته.
تعليم لغة، يوازي التدريب على النظر إلى
الحياة وفهمها وإعادة تشكيلها بالكلمات. ولم يخطئ الفيلسوف الفرنسي ميشال سير، حين
قال: «أن تفكر هو أن تدخل في سعادة عميقة»، ناصحا من يحبهم أن يحلّقوا في التفكير
ويغوصوا في المعاني، وأن يتجاوزوا باستمرار القمقم الذي حُبسوا فيه.