يمكن إجمال ما يجعل بعض الإسلاميين العرب أكثر تسامحاً مع أردوغان، في عموم خياراته السياسية التي قد يرفضون اقتراف مثلها من نظرائهم العرب.. في جملة أسباب؛ أهمها، ما يبديه أردوغان من امتلاكه مشروعاً، لا بمجرد الادعاء ولكن بظهور نتائجه واضحة في الواقع، في حين ينغلق المجال العربي تماماً أمام إمكانية إحداث اختراق في النظم السياسية القائمة بأدوات الإصلاح من الداخل، مما ينتهي بالإسلاميين العرب، الذين اختاروا العمل من داخل النظام، إما إلى الذوبان فيه أو توظيفهم واستخدامهم، أو تقطيعهم الوقت لمجرد إثبات الحضور.
تضاف إلى ذلك أسباب أخرى، منها ما ورثه حكم أردوغان من سياسات دولة مستنكرة من حيث المبدأ، يُظهِر تغييراً فيها، باتجاه ينفصل عنها أو يخفّف منها بالتدريج، وهو أمر ببداهة العقول، لا يجعل سياساته المندرجة في هذا السياق في درجة واحدة مع سياسات عربية، تنحطّ من الحسن إلى السيئ، أو من السيئ إلى الأسوأ.
يأتي الإنجاز عاملاً معزّزاً، يمنحه مصداقية المشروع وصدق النية لدى هؤلاء الإسلاميين، فضلاً عما يستفيده الإسلاميون العرب، ومنهم حركة حماس، من مساحات تحرك داخل تركيا، تجعل منها ملجأ لهم من جحيم بلادهم العربية. والاستفادة، ولو اقتصرت على حد اللجوء، ليست هيّنة، في مقابل سعار الملاحقة الذي بات يضيّق الأرض بطولها وعرضها، على هؤلاء الإسلاميين.
لا تقتصر الأسباب على ما سلف، لكن هل مثل هذا التحليل، يكفي لغض النظر من الإسلاميين العرب، عن سياسات التطبيع التي تمارسها الدولة التركية مع الاحتلال الإسرائيلي؟
إذا كانت سياسات أردوغان محكومة بمجال عمله، وهو الدولة التركية، ومضطرة لمراعاة حساسيات هذا المجال، فإنّ الإسلامي العربي، ومن باب أولى الفلسطيني، ينبغي أن يضطر إلى مجال عمله هو، أي الحساسيات العربية الأقرب إلى فلسطين
إذا كانت سياسات أردوغان محكومة بمجال عمله، وهو الدولة التركية، ومضطرة لمراعاة حساسيات هذا المجال، فإنّ الإسلامي العربي، ومن باب أولى الفلسطيني، ينبغي أن يضطر إلى مجال عمله هو، أي الحساسيات العربية الأقرب إلى فلسطين.
من المفارقات الغريبة في هذه القضية، أن يتصرف إسلاميّ عربيّ، فضلاً عن الفلسطينيّ، وكأنه تركيّ، في تفهم سياسات أردوغان التي تتناقض مع حقيقة تصوّره (أي الإسلامي العربي والفلسطيني) للقضية الفلسطينية، وقد يختلط، والحال هذه، في بعضهم، الفهم الصحيح للسياسات التركية بالموقف الصحيح إزاءها. فإدراك الدوافع، وملاحظة الإكراهات، والوعي بخصوصية الحالة التركية، لا ينبثق عنه تلقائيّاً القبول بالتطبيع التركي، أو الدفاع عنه داخل المجال العربي والفلسطيني.
المهم في هذه الحالة، موقف الإسلاميين العرب، والفلسطينيين منهم على وجه الخصوص، من التطبيع التركي، إذ يدور حديث في الآونة الأخيرة عن احتمالات تصعيده مجدّداً، أكثر من الموقف التركي نفسه المحكوم بحيثياته الخاصّة، إذ كيف يمكننا حراسة قضيتنا، والدفاع عنها، إذا بتنا محكومين لاعتبارات غير اعتبارات قضيتنا؟!
تحوّل الفاعل من موقعه سياسيّاً أو مثقفاً، إلى محلّل سياسي يتوخى مجرّد فهم دوافع السياسات، سينتهي به إلى الكفّ عن القيام بدوره في ثغره، الذي هو القضية الفلسطينية في هذه الحالة
ذلك من حيث المبدأ، وأمّا من حيث التفصيل، فإنّ تحوّل الفاعل من موقعه سياسيّاً أو مثقفاً، إلى محلّل سياسي يتوخى مجرّد فهم دوافع السياسات، سينتهي به إلى الكفّ عن القيام بدوره في ثغره، الذي هو القضية الفلسطينية في هذه الحالة، بل إنّ معاندة الإكراهات وعدم التسليم لها، من شروط التغيير في التاريخ، وإلا لسقط التاريخ الإنساني كلّه في قبضة الطغيان والظلم، ولما عرفنا نبيّاً ولا شهيداً ولا ثائراً ولا مصلحاً.
إخضاع نقد التطبيع لدرجات اقتراب وابتعاد فاعله، سينتهي إلى تحويل القضية الفلسطينية إلى ورقة استخدام وظيفي بين القوى الإقليمية، بما يطعن في مبدئية هذه القضية، وذلك فضلاً عن إسقاطه مصداقية منتقدي التطبيع، حينما لا تعود فلسطين معيار الموقف، وإنما العلاقة بالفاعل نفسه هي معيار الموقف.
يقال، في هذا الإطار من بعضهم نقداً لحدّة المواقف الرافضة للتطبيع، بأنّ فلسطين ليست محور الكون بالنسبة للعالم، وعلى الفلسطينيين والإسلاميين تقدير أولويات الآخرين. هذه المقولة متجرّدة تماماً من أي وجاهة في ما نحن فيه، إذ لا يوجد فلسطيني واحد يتوهّم أن قضيته أولوية عالمية، أو محور الكون بالنسبة للعالم.
لكن فلسطين هي محور الكون بالنسبة للفلسطيني، وأولويته القصوى، لا باعتبار استثنائية فلسطينية أصلية، ولكن باعتبار واقعه وواجب ثغره. وهي من الروافع الأساسية في إطلاق الصحوة الإسلامية، ونفخ الروح في الحركات الإسلامية، فإدراكنا لأولويات الآخرين لا يعني أبداً أن نعيد صياغة خطابنا وفق أولوياتهم، ومن ثمّ، فلا معنى للتذكير الدائم بأنّ فلسطين ليست القضية الوحيدة في العالم، أو ليست محور الكون بالنسبة للعالم. إذ يكفي أن تكون محور الكون بالنسبة لنا نحن، ليكون لنا هذا الموقف الحادّ من أيّ تطبيع.
تبقى نقطتان نأتي عليهما سريعاً، وهما:
أولاً، إنّ عدم المساواة بين المطبعين نتيجة حالة التردّي العامّ لا يعني اختلاف التطبيع جوهريّاً من حيث هو، فالتطبيع هو التطبيع. وفي هذه النقطة تحديداً، يختلف موقع المثقف عن السياسي، فالسياسي الذي يحمله الواقع بالغ السوء على حسبة دقيقة للغاية، غير المثقف الذي واجبه تخليص المبدأ من التباسات السياسي.
ثانياً، إن احتياج تركيا للاحتلال الإسرائيلي في هذا الوقت، ورغبتها في تخفيف حدّة الخلاف مع خصومها في المحور الإسرائيلي، يكشف عن حدود القوّة التركية في اللحظة الراهنة، وأنّها ليست بالقدر الذي يحبّ أن يتوهّمه بعض الإسلاميين العرب، مما يعني أن التطبيع الاستخباراتي الذي أشار إليه أردوغان أخيراً، قد يتوخّى إرضاء الإسرائيليين لكسر الجمود في العلاقة معهم، الأمر الذي قد يمسّ حركات المقاومة وقدرتها على التحرك، وهو آمر كافٍ لرفع الصوت في الهجوم على هذا التطبيع.
twitter.com/sariorabi
تصريحات أردوغان نحو "إسرائيل": لماذا الآن؟
المغرب والتطبيع مع الكيان الصهيوني