لطالما كانت حركات التحرر الشعبية عبر العالم حاشدة لكل قواها الاجتماعية وجامعة لكل أطيافها ومكوناتها وتياراتها حول فكرة التحرر، ولطالما كانت ضرباتها موجعة للمستعمر كي ينكمش وينحصر ويندحر.
ولقد شهدت العشرية الأخيرة حركات تحرر شعبية كثيرة في الوطن العربي، لكن الأمر هذه المرة اختلف على مستوى الهدف والمستهدف والوسيلة والنتيجة أيضا.
فلماذا لم تعد الشعوب قادرة على تغيير نظم الحكم في بلدانها؟ وهل النظم الاستبدادية أكثر شراسة وفتكا من النظم الاستعمارية؟ ولماذا لم تقم ثورة ربيع عربي إلا استحالت إلى صيف قاحل؟ ولماذا ما تحرك حراك شعبي إلا وانتهى بالتوقف من غير نتيجة تذكر؟ ولماذا كان حصاد بعض الحراك فتاتا لا يسمن ولا يغني من جوع؟ ولماذا لم يتم التحول الديمقراطي في أغلب الدول العربية، وما تم كان على مستوى الشكل لا المضمون؟
الإجابة على هذه الأسئلة تتطلب النظر من زوايا مختلفة، والعودة إلى العلوم السياسة وعلم الاجتماع والتاريخ وعلم النفس وعلوم التربية والإدارة والجيوسياسة وغيرها.
عملية توصيف دقيق للواقع ودراسة أسبابه وعوامله وتفسير ظواهره واستشراف مستقبله تتطلب التوغل في علوم شتى. بعض الإجابات وليس كلها طبعا نجدها في علم القيم. كانت القيم ولاتزال المحرك الأساسي لسلوك البشر أفرادا وجماعات.
- فبالنّسبة للفرد تساعده القيم على فهم محيطه واندماجه فيه وتخلق توأمة بينه وبين مجتمعه، كما تؤدّي دورا وقائيّا وعلاجيّا لمشاكله، كما يقول زهير المزيدي، وتحفظ كرامة الإنسان وتهذّب سلوكه. وإذا اهتزت القيم أو اضطربت فإنّ الإنسان يغترب عن ذاته وعن مجتمعه، ويفقد دوافعه للعمل وتضطرب شخصيّته، كما يرى وداعة.
- بالنسبة للمجتمع: القيم هي صمّام الأمان للمجتمعات للمحافظة على هويتها ومواجهة هيمنة الخارج والعولمة الّتي تهدّد الخصوصيّة، فهي تحافظ على تماسك المجتمع وتساعده على مواجهة التغيرات وتربط ثقافة المجتمع وتقيه من الأنانية والنزاعات.
والقيم هي الموجّه لطاقات المجتمع وجهوده، وتحفظ للمجتمع تماسكه وتحدّد مثله العليا ومبادئه الثّابتة، وتعمل على ترشيد الثّقافة والفكر، وتساهم في تنمية المجتمع خاصّة عند اتّخاذ منظومة قيميّة عالية الجودة: طموحة وتنبع من ثوابت الأمة، ومواكِبة للمرحلة الّتي يمرّ بها المجتمع وتتسم بالواقعيّة والفعاليّة، كما يقول إبراهيم الديب.
فالقيم تنغرس في الأفراد لتصبح أشبه ما تكون بالعقيدة الراسخة التي توجه سلوك الفرد وتتحكم في دوافعه وتفضيلاته، وفي حكمه على الأشياء والمواقف والأحداث والموضوعات المختلفة.
والقيم - بالرغم من نزوعها نحو الثبات - متغيرة وترحل عبر الزمان والمكان وتتغير وتتطور، وأحيانا يتغير محتواها فيما تحافظ على الشكل وقد تغير مكانها على السلم القيمي للفرد أو المجتمع، فتلمع بعض القيم فيما تنطفئ أخرى وتنخفض قيم وترتفع الأدنى منها.
هذه الحركية الدقيقة للقيم والصعبة للملاحظة والقياس، تحدد وتفسر الكثير من الظواهر الاجتماعية والسياسية وعمليات التحول والتغير التي تطرأ على المجتمع، وأرى أنها تجيب في تفاصيلها الدقيقة على الأسئلة المرتبطة بحركات التحرر من النظم الاستبدادية.
ومن خلال ثنائية "القيم الفردية والقيم الجماعية" لن نتمكن من توصيف جيد لجانب مهم من الواقع فحسب، بل يمكن أيضا إعطاء التفاسير واقتراح الحلول واستشراف المستقبل بل والعمل على صناعته أيضا.
في وقت مضى طغت القيم الجماعية على القيم الفردية في النظم الاجتماعية التقليدية، أو بتعبير الإكسيولوجيا كانت القيم الاجتماعية أكثر حاكمية. ففي الجزائر كان النظام الاجتماعي التقليدي حارسا للثورة التحريرية ووجه الاستعمار الفرنسي الكثير من الجهد لمحاربته، فكان كلما بدا أنه قضي عليه انبعث من جديد، كما كان يقول سليمان مظهر، الجزائري المتخصص في علم الاجتماع.
لقد أدركت الدول الاستعمارية أن رص المجتمع بإسمنت القيم الجماعية كان الحصن المنيع لمجتمعات الأنديجان (مواطنو الدرجة الثانية: الأهالي). فقد كونت تلك القيم قوة صلبة مستعصية على المستعمر، فلا سياسة الإدماج نجحت في جعلها تنحل وتذوب وتتلاشى، ولا سياسة القمع نجحت في تفكيكها وتفتيتها.
وكان من مظاهرها ما يلي:
- وضوح ووحدة الهدف وجلاء البوصلة.
- قوة التوجه.
- قوة الاحتشاد.
- قوة القيادة والالتفاف حولها وقوة الجندية.
- قوة الاتفاق على الاستراتيجيات وطرق التحرك وخريطة الطريق.
- قوة التطبيق وتنفيذ العمليات وتبني الثورة.
تشبّع المجتمع بقيم الإيثار والمسؤولية والتراحم والاحترام والتواصل الفعال المنظم، والتعايش السلمي وتوزيع الأدوار على أساس العلم والأمانة، والتحاكم والتقاضي في الجماعة.. أدى هذا التشيع إلى اشتعال الثورات التحريرية ضد المستعمر، حيث ذابت الأنا في الأنا الأعلى واتفقت الأنا أيضا مع الـ"هو"، فكان التحرر.
أصدق وصف لذاك الرعيل هو قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "كمثل الجسد الواحد".
خلفت النظم الاستعمارية في أغلب الدول المتحررة نظما استبدادية تابعة لها، خانعة، قليلة الأمانة على أهلها. كانت نتيجتها ضياع الثروات ومواصلة التبعية والمزيد من الفقر والحرمان، مظاهر شتى لواقع مزر لا يتسع هذا المقال لوصفه، بل ربما ما من حاجة لتوصيفه.
فتح هذا الواقع باب الثورات الشعبية ولظهور محاولات لدمقرطة الحكم والحياة الاجتماعية.. جميع هذه الثورات والمحاولات كانت بين بوء بالفشل أو شبيهه، أي الحصول على فتات من المزايا والمكاسب الشكلية التي لم تغير في واقع الناس شيئا، ولم تضمن التحول الديمقراطي المنشود، حيث تغولت النظم الاستبدادية على شعوبها في مظاهر لا إنسانية من قتل واعتقال وتشريد وترحيل وتضييق..
ومرة أخرى تقف المسألة القيمية على رأس أسباب فشل القوى الثورية وقوى الإصلاح في الوطن العربي. اليوم طغت قيم الفرد على قيم الجماعة وتموضعت القيم الشخصية على رأس السلم القيمي للأفراد.
لم تستقبل الشعوب العربية الفلسفة البراجماتية كعلم للدراسة والمناقشة والمحاكمة بل اتخذتها كنظام للحياة، لكننا لا نجد رواجا لها كاسم بل كمحتوى، فلا تكاد تجد بين الناس حتى النخبة من يتكلم عن البراجماتية لكن الرائج الآن في دولنا العربية على امتداد جغرافيتها تشجيع الناس على أن يفعلوا الأشياء التي تحقق أهدافهم بشكل أفضل دون اعتبار للآخر، حيث لا معيار إلا للذات وتجاربها الشخصية، حيث تسللت إلى معتقد الناس فكرة قيمة الذات والوعي بالذات وتأكيد الذات وتقدير الذات، وأفكار النجاح والاستقلال الذاتي، والسلطة والأمن الذاتي، والمتعة والطموح والسعادة والتميز.
ولست أعيب على هذا التوجه إلا الإفراط فيه، مما عزز عند الناس الأنانية والغرور والاستعلاء والتعالي، والحاجة إلى زيادة الاهتمام وشعور مبالغ فيه بالأهمية والنرجسية.. فظهرت مشاكل في العلاقات والعمل والمدرسة..
وبما أنه عادة ما يجد المجتمع نفسه في حاجة إلى تكوين نسق قيمي أقرب إلى النسق ألقيمي لأفراده ليحافظ على خصوصيته وكينونته، فقد صبغت هاته القيم الفردية المجتمعات بهذا الزيف.
ومنه كانت قلة الاهتمام عند العامة بشؤون الأمة والوطن وبقضايا الحقوق والتحرر، وانكفاء كل فرد على تحقيق حاجته على قاعدة هرم ماسلو، وباتت قيم الجماعة بين فاقدة للحاكمية من جهة، وبين قلة وضوح أو سوء تموضع على سلم التفضيلات من جهة أخرى.
إن عملية التحرر من الاستبداد كما التحرر من الاستعمار تتطلب تحقق قيم الجماعة بشكل جلي وقوي لتحشد كل الأفراد على اختلاف في الأعراق والأطياف، وهذا يتطلب الكثير من الجهد يقوم به النخب والمفكرون وأعضاء المجتمع المدني والنشطاء السياسيون والاجتماعيون وكل مخلص. فالتحرر من النظم الاستبدادية في جزء منه هو عملية تربية قيمية لمجتمع مدرك لذاته الإنسانية.