يشهد الوطن العربي حالة من انتقال المقدس نحو الذات الإنسانية، التي تعبر عن وعي الإنسان الحديث بنفسه وبقيمه ومبادئه.
لا تنفصل قيم الفردانية عما ادعته الحداثة من القدرة على تقديم المعنى للإنسان بشكل متناسب مع وعيه ورغبته في التحرر.
وفي هذا السياق تتشارك الدول العربية ببعض مظاهر ما يعرف بالدين الحديث العالمي، والذي تبدو مظاهره مقترنة بظواهر الإلحاد أو التوجه الصوفي أو الروحاني، بالإضافة إلى تشكل مظاهر تدين فردي خاضع لمتطلبات السوق في العصر الحديث.
وتناول علماء الاجتماع مثل هذه الظواهر، التي تبرز بشكلها الواضح من خلال كنائس أديان الحداثة وما بعدها المنتشرة في أمريكا وأوروبا.
أديان العصر الجديد
قدم علم الاجتماع نظريات مختلفة لتفسير الظواهر الدينية معتمداً على ما عرف من الأديان العامة، ذات الطابع المؤسساتي والتي باستطاعتها المشاركة والتأثير بفعالية في الشأن العام.
وقامت دراسات لا حصر لها للأديان العالمية وما يتعلق بها من شؤون روحية واجتماعية وسياسية. أما بالنسبة للأديان الخاصة، فإن علم الاجتماع لم يولّها ما يكفي من الاهتمام، لأسباب تعود لمحدودية تلك الظواهر واقتصارها على الشأن الخاص.
اقرأ أيضا: صامولي شيلكه: صائد أحلام المصريين
ولكن بعض الدراسات بدأت بالانتباه مؤخراً إلى أهمية دراسة الظواهر الدينية الحديثة، وخاصة تلك التي تعرف بأديان العصر الجديد New Age المنتشرة في أوروبا وأمريكا الشمالية.
وتشير أديان العصر الجديد إلى مجموعة من المعتقدات والممارسات الروحية التي تنامت في العالم الغربي خلال ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، والتي عرفت فيما بعد بحركة العصر الجديد.
وبرزت حركة العصر الجديد في الولايات المتحدة الأمريكية بعد تحولات جذرية سياسية واقتصادية واجتماعية، كان أبرزها حرب فيتنام وبروز الحركات الاشتراكية التي كانت تقودها مجموعات الهيبيز وحركة العودة إلى الأرض.
كان لتلك الحركات دور كبير في توجيه المشاعر الدينية نحو الروحانية الشرقية والتقاليد الباطنية الغربية التي تعتمد على مجموعة منوعة من الفلسفات المتحدة مع الطبيعة والتي تهدف إلى إضفاء السحر إلى العالم.
كيف نميز أديان الحداثة؟
رغم الانتشار السريع لحركة العصر الجديد، إلا أنه لا يزال العلماء مختلفين في توصيفها كدين، ويزيد الأمر تعقيداً ما ينتشر بين أتباع الحركة من ادعائهم بأنها حركة "روحانية لا دينية".
تقوم فكرة استبعاد الدين على فرضية أن الممارسات الروحية لا تحتاج إلى بنية مؤسساتية لخصوصيتها واعتمادها على الإدراك الفردي.
أسس لهذه الفكرة عالم الاجتماع، توماس لوكمان وهو يرى بأن "الوعي الديني الجديد" وأن "تحقيق الذات" يعبران عن "الدين غير المرئي" للحداثة.
من أهم ما يميز أديان الحداثة أنها قادرة على التخفي والظهور بشكل مغاير عما يعرف به الأديان التقليدية، ولذلك يصعب تحديدها وأحياناً يتم تجاهلها وعدم الاعتراف بها.
ومع هذا الغموض والالتباس، إلا أن مجموعة العناصر والمميزات التي شكلت هذه الظواهر، قادرة على كشف معالم الدين الحديث.
التجربة الشخصية
تعتمد الأديان الحديثة على تجربة الفرد الشخصية في البحث عن ذاته "الحقيقية" واختباره الواقع الذي يعيشه حيث يكون سؤال "من أنا؟" متحكماً في فهمه وفي المعنى الذي يبحث عنه.
تعلي هذه الأديان من قيمة التجربة التي تصبح غاية في نفسها ومصدر الفرد لتحقيق ذاته. وهنا تقترن الذات بالحقيقة، يعني ذلك أن على الفرد أن يؤمن بذاته ويثق أن بمقدورها أن تصله بالحقيقة المتجاوزة.
فإن كانت الأديان السماوية تنطلق من الإله إلى الإنسان، فإن دين الحداثة ينطلق من الإنسان إلى الإله أو المتجاوز الذي قد يعبر عنه بـ"الطبيعة" أو "الروح".
سوق الروحانيات
ليس من الغريب إن تحدثت إلى أحد المنتمين إلى الأديان الحديثة عن تجربته الدينية، أن تسمع عن "التسوق الروحي"، وهي تشير إلى عملية البحث عن الروحانيات المناسبة للشخص.
يتجول "طالب الحقيقة" خلال عملية التسوق بين مختلف الأديان والفلسفات الروحية إلى أن يصل إلى حقيقة تستقر في نفسه.
ولأن الأديان الحديثة وليدة الحداثة، فإن الممارسات الروحية والدينية تخضع بنفسها إلى معايير السوق وتتحول إلى منتج يعود بالربح المادي.
ولذلك نجد أن بعض الطقوس التأملية والرياضات الروحية مثل اليوغا باتت مصدر دخل للبعض، بعد تفريغها من محتواها الروحي وتحويلها إلى رياضة تساعد الإنسان على التطور وتحقيق ذاته.
التكيف النفسي
انطلاقا من اهتمام الأديان الحديثة بالتجربة الشخصية والصوت الداخلي للإنسان، فإنها تعطي للمشاعر حيزاً مركزياً كرد فعل ضد العقلانية العلمية التي فرضها العالم الحديث.
وهي تفترض انقسام الذات الإنسانية إلى واحدة "حقيقية" يسعى الإنسان للوصول إليها، وأخرى "دنيوية" منغمسة بقيم المجتمع والثقافة التي تدنسها وتشوهها. لذلك تسعى هذه الأديان لتقديم آليات الإصلاح والشفاء من هذا العالم الحديث الذي يوصف بأنه فاقد للسحر وكونه سبباً لاغتراب الإنسان عن نفسه وفقدانه المعنى.
وهي بذلك لا تقدم للفرد آليات مقاومة لهذا الواقع، وإنما أدوات للتكيّف النفسي حيث يصبح العالم أقل قسوة وأكثر احتمالاً.
ما بعد الخفاء
مما لا شك فيه أن العالم الإسلامي قد وقع تحت تأثير قيم الحداثة والرأسمالية، والتي أفرغت كثير من المبادئ الدينية من غاياتها وجعلتها أكثر سيولة كما يدعي باتريك هايني في كتابه "إسلام السوق".
في تقديمها للكتاب، توافق الدكتورة هبة رءوف عزت الكاتب في أن: "الجيل الجديد قرر الانصراف عن الأطروحات الصلبة للتنظيمات وظهر نوع جديد من الدعاة يروج لمفاهيم الإدارة الحديثة والتركيز على الفرد، بدلاً من تسويق مفاهيم كبرى كالنهضة والخلافة تبتعد عن هموم الحياة اليومية للناس".
ولكن رغم هذا الانزلاق وابتلاع السوق للظواهر الإسلامية، إلا أن مشهد التحولات الدينية أعقد من ذلك كما تؤكد الدكتورة هبة رءوف، فهو يشير كذلك إلى توجهات جديدة نحو الدين "بصيغة جديدة تجمع بين اكتشاف الإسلام، وإعادة اكتشاف الذات والمسلك الأخلاقي".
لذلك يصعب تقديم حكم أخلاقي مختزل بالرفض أو القبول على مجموعة التحولات في التجربة الدينية المتأثرة بالحداثة.
لا تزال الأديان الحديثة في السياق العربي تعد ظواهر غير مبلورة وإن كان يظهر بعض معالمها في الأوساط -خاصة الشبابية- بشكل غير علني.
ذلك بأن الأديان الحديثة، وهي نتاج الحداثة الغربية، لا تزال تتسلل إلى مجتمعاتنا دون صيغة واضحة أو صورة تقدم نفسها من خلالها باعتبارها دين.
جميعنا يلاحظ تحولات دينية وانتقال نحو دين أكثر فردانية يقدم مكانة مقدسة للذات الإنسانية، ومع هذا لا نزال نجهل شكل هذا الدين في وسطه الإسلامي.
ولأن من مميزات الدين الحديث أنه خفي، فإن هناك وظيفة هامة تنتظر علماء الاجتماع والأنثروبولوجيا لتوضيح معالم هذا الدين وكشف خفاياه.