مصر هي قلعة الإسلام وقلب العروبة ودرة تاج الشرق وكنانة الله في أرضه، ويحلو للمصريين أن يقولوا عنها إنها أم الدنيا. ويبدو أن كل تعريف من هذه التعريفات ما هو إلا نتاج حالة لم يملك
التاريخ وضعها في خانة العادي والمتشابه. فمعركتا حطين (1187م) وعين جالوت (1260م) منحتها اللقب الأول، ومؤتمر أنشاص (1946م) الذي تأسست فيه الجامعة العربية منحها الثاني وهكذا.. إلا أن ما قصد إليه "ستيفن كوك" في كتابه المهم لم يكن حول هذه التعريفات البتة. ليس هذا فقط، بل إن الرجل يجزم أن النضال لـ"تعريف مصر" دخل مرحلة جديدة تماما عما كان في سابق التاريخ والأزمان.
ما اسم هذا الكتاب؟ ومن هو ستيفين كوك؟
الكتاب هو "النضال من أجل مصر" وصدر عام 2012 م عن المركز القومي للترجمة (هيئة الكتاب المصرية) وترجمه الأستاذ طلعت غنيم، وصدر بعد عام من ثورة 25 يناير 2011 م. وأهميته التي اكتسبها وما زال يكتسبها من أهمية المادة الخام التي صنعت موضوعه (25 يناير)، والتي ما زالت قيمتها حية في ضمير المصريين كلهم أجمعين، من شارك فيها عن قرب، ومن راقبها من بعد، ومن رحب بها ومن ضاق منها، وهكذا التاريخ وهكذا الثورات وهكذا البشر. قصد الكاتب من سرديته المهمة الوصول إلى حقيقة مفادها أن مصر شأن (أحيانا) يتجاوز المصريين، وإن كان المصريون هم من يسكنونها ويعمرونها. طبعا عمنا الكبير د. جمال حمدان (1928- 1993م) سال من تحت قلمه حبر كثير وكثير جدا حول هذا المعنى المغلق المفتوح، المستدير المربع، القديم الجديد، التاريخي الجغرافي الاستاتيكي الديناميكي.. قال وقال في الحقيقة.
الحاصل أن الكتاب يرصد التطورات التاريخية التي قادت إلى ثورة يناير، وهو ما جعله يضع محطات كبرى في الطريق إليها.. الاحتلال الفرنسي لمصر (1798م)، وعهد محمد علي وخلفائه (1805م)، إلى الاحتلال البريطاني (1882م) والنضال من أجل الاستقلال، بما في ذلك بروز حزب الوفد وقياداته التاريخية مثل سعد زغلول ومصطفي النحاس، وطبعا ثورة 1919م وفترة ما بين الحربين (1918- 1939م) وبروز القضية الفلسطينية (1917م)، وصولا إلى حركة الضباط الأحرار (1952م). يقول الكاتب إن تتبع هذه التطورات التاريخية ضرورة لفهم الانفجار الذي حدث في 25 كانون الثاني/ يناير 2011م.
وهو يرى أيضا أن هذا الانفجار له اتصال بمشكلات خارجية، فالبريطانيون والسوفييت ثم الولايات المتحدة في الحقب الأخيرة كان لهم جميعا تأثير على الساحة الداخلية المصرية، ويؤكد على تأثير الولايات المتحدة والتي دعمت لعدة عقود ماليا ودبلوماسيا وسياسيا زعماء نظام سياسي غير ديمقراطي، زعماء كانوا غير مبالين بشعبهم. ويستخلص أن المعركة ضد مبارك انتهت، ولكن النضال لتعريف مصر دخل مرحلة جديدة.
البروز الواضح للإسلاميين بكل فصائلهم جعل الكاتب يهتم بتتبع الموضوع وأرض الموضوع كما يقولون، فيقول إنه من المهم توضيح أن الإسلام عامل حساس ومعيار هام للغاية، وساعد بشكل كبير في تشكيل مصر والشرق الأوسط الحديث.
يتحدث عن "الإصلاحيين المسلمين" الذين رأوا أن أوضاع المسلمين كانت نتيجة جهلهم الجماعي والعجز في الأخلاقيات العامة والافتقار إلى الوحدة، ويقول عنهم: هم لم يكونوا يكرهون أوروبا في ذاتها، فكل من محمد عبده (1849- 1905م) والأفغاني (11838- 1897م) أمضيا وقتا في أوروبا، وأعجبوا بإنجازاتها. وكان محمد عبده خصوصا يدرك أهمية التعليم والسياسة والإصلاحات المدنية التي أجراها الخديوي إسماعيل (1830- 1895م) بإلهام من أوروبا.
ويجزم قاطعا بأن محمد عبده وغيره من الإصلاحيين الإسلاميين بل والمصريين والمجتمعات الإسلامية بوجه عام؛ لا يستطيعون الاستسلام للمفاهيم الأوروبية حول "ما يجب أن يكون عليه المجتمع".. فالإسلام يجب أن يعمل "كعامل حاكم" في المجتمع، وفي النهاية اعتقد محمد عبده أنه من أجل "وقف تحلل مصر" فإن مصر تحتاج حاكما عادلا يحكم وفقا للقانون وبالتشاور مع الشعب.
أنجب محمد عبده تلامذة أقوياء، عملوا على توسيع وتفسير أفكاره بشكل أكثر، كان من أهمهم: أحمد لطفي السيد (1887- 1936م) ورشيد رضا (1865- 1935م) وسعد زغلول (1858- 1927م)، والأخير سيلعب دورا مركزيا في النضال الوطني. ورغم هذا فقد كان ثمة اختلاف في الطريقة التي فسر بها هؤلاء الثلاثة فكر محمد عبده وتطبيقه على مشكلات مصر.
فلطفي السيد لم يكن ملتزما بالضرورة بمركزية الإسلام كما تصورها محمد عبده وبالشكل الذي تصوره الأفغاني.
وبالنسبة لرشيد رضا فإنه طرح سؤاله الكبير: "لماذا تخلفت البلدان الإسلامية؟"، وانتهى إلى أن السبب هو انحراف المجتمع عن الإسلام. يضيف الكاتب: كان رضا يقدر القوة التكنولوجية للغرب، ولكنه اعتقد أن ثمة علاقة مباشرة بين المبادئ الأخلاقية للإسلام وبين تطور المجتمع، فإذا فُهم الإسلام بشكل صحيح وطبقت أخلاقياته ومبادئه بشكل صحيح، فإن ذلك سوف يتبعه بالتأكيد الرخاء والتنمية والقوة.
أما سعد زغلول الذي سيقود الكفاح الوطني من خلال حزب الوفد ضد الإنجليز، فإنه على الرغم من ارتباطه بالأزهر ومحمد عبده فإنه كان يشارك العديد من أتباع محمد عبده أفكارهم؛ في أن التعليم والإصلاحات القانونية هي مكونات ضرورية للنهوض بمصر.
الكاتب تحدث عن ظهور الضباط الأحرار واعتمادهم منذ البداية على واشنطن لتحقيق جلاء الإنجليز. وعلى الرغم من العلاقة الخاصة بين واشنطن ولندن، فإن إدارة آيزنهاور قد دفعت حلفاءها البريطانيين ليقبلوا بالانسحاب من مصر، وإن كان الاتفاق مع البريطانيين كان عليه أن ينتظر حتى توطيد الضباط الأحرار لسلطتهم. ويضيف في نفس المعنى معلومة جديرة بتأكيدها: "لم يكن هناك شك في أن علاقة حميمة قد تطورت بين الضباط وواشنطن، وكان اللقاء الأول بين الضباط والسفير الأمريكي جيفرسون كافري بعد يومين من الانقلاب".
انتهى كلام كوك في هذا الموضوع، وما قصدت من طرحه والحديث عنه في الدائرة الأوسع هو "الإصلاح الاسلامي" وتطور حالاته ومآلاته. وسنلاحظ شيئا مهما: أنه حين تحدث عن الفترة الزمنية الأولى (الأفغاني وعبده وتلاميذهم..) اهتم بالفكر وتطبيقه على الواقع، لأنه (
الفكر) في الحقيقة كان أبرز ظواهر الحركة الإصلاحية، ويفترض أن يكون كذلك في كل وقت وحين. وحين جاء للفترة الأخطر، اهتم بالتصارع على السلطة بين الإصلاحيين وحركة الضباط، وبالفعل كان الصراع هو اللب واللباب في القصة. ومفهوم طبعا أن أمريكا وبريطانيا أخذتا جانب العسكريين (كما قال خالد محيي الدين، عضو مجلس قيادة الثورة، في مذكراته المهمة: "الآن أتكلم"). كانت تلك في الحقيقة الفلسفة الثابته في الغرب لحكم الشرق الأوسط كله "ما بعد" الحرب الثانية.
* * *
ستيفين كوك (82 عاما) باحث أمريكي متخصص في المسألة الشرقية وسياسات أمريكا تجاه الشرق الأوسط في مجلس العلاقات الخارجية الأمريكي (هذا المجلس تأسس عام 1921، بعد الحرب العالمية الأولى، في عهد الرئيس ويلسون. وهو من أكثر مراكز صنع القرار تأثيراً ونفوذاً في أمريكا، وأنشأه مورغان وروكفلر وهما كما نعرف من أشهر رجال الأعمال والمال في أمريكا، ويطلق عليه أيضا حكومة العالم. وأخيرا فهو الجهة التي تصدر عنها أشهر مجلة أمريكية متخصصة يعرفها المثقفون العرب: فورين أفيرز).
يقولون إن هناك فارقا بين "الكلام" و"الكلمات".. فالكلام لحظة خاصة يدور فيها حول نفسه، ولا معنى له خارج ذلك النطاق، أما الكلمات فهي كلام لا يدور حول نفسه، إذ ستصبح نصا تستقطر منه المعاني والدلالات والعبر والآيات، وتبقى له تلك المعاني زمنا طويلا، وكتاب "ستيفين كوك" من هذا النوع.
twitter.com/helhamamy