تشهد منطقة الشرق الأوسط
تغييرات دراماتيكية في المواقف والأدوار والاصطفافات جراء تغير قواعد اللعبة إثر
وصول الديمقراطيين إلى سدة الحكم في الولايات المتحدة الأمريكية، ويبرز هذا بشكل
واضح من خلال التطورات الأخيرة والتي شكل رأس جبل الجليد فيها إنجاز المصالحة الخليجية
وفتح قنوات حوار بين تركيا من جهة والسعودية والإمارات ومصر من جهة أخرى، ويقظة
الدبلوماسية الأردنية والذي تجلى بعدد من الزيارات المتبادلة كزيارة ملك الأردن إلى
الإمارات وزيارة الرئيس المصري إلى الأردن وطواف وزير الخارجية الأردنية على عدة
عواصم، وكذلك تحديد أجندة الانتخابات الفلسطينية كإجراء تنفيذي بعد لقاء الأجهزة
الأمنية المصرية والأردنية والفلسطينية مع الرئيس الفلسطيني محمود عباس، الأمر
الذي يعبد طريق المصالحة الداخلية، وتسارع ملفات المصالحة الليبية واليمنية.. الخ.
وتشي التحركات بجدية التغييرات التي قد تحدث
عالميا وشرق أوسطيا بسبب تعاظم ما يمكن وصفه بتراكمات كرة ثلج فترة الرئيس
الأمريكي المنصرف دونالد ترامب، والذي أبى أن يغادر دون أن يترك بصمة فارقة في
التاريخ الأمريكي.
حاولت الأنظمة الشمولية في منطقتنا المنكوبة
بالاستبداد توظيف الرعب الأمريكي في ملاحقة معارضيها وما تبقى من هوامش حرية
وحقوقية، إذ كان خطاب الأنظمة المعلن والضمني لأمريكا «ألم نقل لكم: الحرية
والديمقراطية لا تليق بهذه الشعوب.. ها أنتم تدفعون الثمن واحذروا من المزيد».
حالة الصدمة بين النخب وفي الشارع الأمريكي من
حادثة اقتحام الكونغرس، وهذا ما يفسر الإصرار على محاولات عزل ترامب ومعاقبته على
ما يوصف بمحاولة الإضرار بالديمقراطية من خلال إنكار النتائج ووصفها بالمزورة على
النقيض من قرارات عشرات المحاكم، والتحريض عليها في الشارع، مما شكل تهديدا جديا
لاستقرار المجتمع الأمريكي.
فهل يصح بعدما تقدم القول بأننا مقبلون على
أمريكا جديدة، يتصدر أجندة حكامها الجدد تجفيف الحالة الترامبية وإغلاق الفواتير
مع ممالئيه في الخارج، إذا كان هذا صحيحا فمن المنطقي تفهم الرعب شرق أوسطيا،
وتحسس بعض المتهمين بالتأثير على استقلالية القرار الانتخابي الأمريكي لرؤوسهم.
ولنتذكر بأن الرئيس السابق والذي شكل ظاهرة
متطرفة فريدة لم تؤد إلى تقسيم المجتمع الأمريكي والوصول به إلى الحافة فحسب، بل
أدت إلى تطرف السياسات في منطقة الشرق الأوسط إلى درجة غير مسبوقة، وكان العالم
شاهدا على علاقة عضوية بين بعض قيادات المنطقة وترامب، وهو ما يفسر خشية بعض قادة
الشرق الأوسط -إن صح الافتراض- بأن يكون سقوط الأخير كشخص وكبرنامج بداية لسقوط
حجارة دومينو كثيرة.
وكي يكون الأمر واضحا فقد شهدت المنطقة في عهد
ترامب غياب قيادات وبروز أخرى، وكذا في الأدوار، فقد ظهرت أدوار وغابت أخرى، كل
ذلك حدث ولأول مرة بطريقة خشنة أو قل فجة، وتفتقد إلى المنطق التاريخي
والجيوسياسي، وكان الأمر جليا إلى الحد الذي كان يطالب فيه الرئيس الأمريكي السابق
بالثمن في كل مرة يقدم خدمة لدول أو زعامات شرق أوسطية، فيما كان يتم تسديد الثمن
بطيب خاطر وبحماس منقطع النظير لحساب ترامب كشخص مباشرة ( لصالح بقائه في السلطة)
استشعارا من هذه القيادات بارتباط المصير بعدما حرقت السفن بما يمكن وصفه بالتدخل
السافر في الانتخابات الأمريكية (نتحدث هنا عن المواقف السياسية كالتطبيع مثلا).
الرئيس السابق كان جدليا إلى درجة محاولته
الانفصال عن المؤسسات الأمريكية العميقة في مواقفه وعن الحزب الجمهوري ذاته،
وإدارة أكثر دولة تأثيرا في العالم بمنطق الشركة الخاصة وبعنجهية فردية سافرة
مستندا إلى المال وإثارة النعرات على كل المستويات.
والسؤال الافتراضي، هل حاول ترامب الاستقواء
بأطراف خارجية في منطقة الشرق الأوسط للي أعناق خصومه الداخليين، أو بشكل أدق، هل
تجاوز ترامب الخطوط الحمراء في استقوائه بأطراف خارجية للفوز بمعركته الداخلية،
إذا كانت الإجابة نعم، فهل شكل ما كان يجري أو سيشكل ذلك رد فعل لدى الديمقراطيين
أو المؤسسات الأمريكية أو حتى الحزب الجمهوري والذي يقدر محللون بأنه كان مختطفا
من قبل الرئيس المنصرف، وبالنتيجة فهل سيؤدي ذلك إلى سلوك انتقامي من الإدارة
الأمريكية الجديدة تجاه القواعد الخارجية لترامب، بالنظر إلى أنه شكل ويشكل خطرا
حتى بعد حسم نتيجة الانتخابات لغير صالحه.
نعم، أمريكا دولة مؤسسات وقانون ولا يمكن فهم
الأمور فيها بمنطق ما يجري في الدول الشمولية، ولكن الحقبة الترامبية السالفة كانت
علامة فارقة إلى درجة صار فيها صوت من يطالبون بالبحث عميقا في الظاهرة ومحاصرتها
أمريكيا ( المنظمات العنصرية) وخارجيا عاليا لوقف ما يوصف بالتدخل في الانتخابات
والتي قد يكون ترامب دشن حقبتها بدخوله إلى البيت الأبيض وخروجه منه.
الخطير بأن الرئيس المنتهية ولايته لا يبدو
على وشك الاستسلام، ها هو يبشر في يوم مغادرته البيت الأبيض بأن ما جرى خلال
ولايته الرئاسية ليس أكثر من البداية، وتتحدث صحيفة «وول ستريت جورنال « بأنه قد
يؤسس حزبا ثالثا يحمل أفكاره اليمينية العنصرية المتطرفة، والتي يبدو أن لها
مريدين كثرا في المجتمع الأمريكي (حصل على نحو 74 مليون في الانتخابات الأخيرة)
وهو ما يثير المزيد من الاستنفار في المعسكر المقابل والذي يتولى الحكم، وكمثال فقد
أصدر الرئيس بايدن نحو 15 قرارا تنفيذيا للتراجع عن سياسات ترامب مباشرة من اليوم
الأول.
وبالعودة إلى السؤال الرئيسي الذي تناقشه هذه
المقالة، إلى أي مدى يشعر الأمريكيون بتهديد لاستقلال القرار الأمريكي وتفش
لليمينية الترامبية، وما مدى ردة الفعل إزاء ذلك، بالطبع هذا ما ستكشف عمقه الأيام
المقبلة، لكن البحث هنا في الشرق الأوسط، كيف ستواجه المنطقة على مستوى الحكام
والمحكومين ارتدادات هذا الأمر تحديدا.
صحيح بأن أمريكا تحكمها المصالح أولا، وبعض
القيادات الشمولية في الشرق الأوسط ليست لديها مشكلة بالانتقال من موقف إلى نقيضه
ومن مركب إلى آخر، والتماهي إلى أقصى درجة مع الإملاءات الأمريكية كنوع من
الاستجابة السياسية في سبيل الإفلات من العقاب، لكن كم ستحتاج استعادة الثقة من
الوقت مع أطراف ارتكبت بالمنظور الأمريكي أكبر خطيئة يمكن تخيلها، ليس الإضرار
بمصالح الدولة العظمى فقط، بل محاولة التأثير على استقلالية إرادتها وتخريب
ديمقراطيتها؟
كل ما سلف يحتاج إلى تأكيدات سيكشفها الزمن،
لكن إن كانت واقعية أو قريبة من الواقع، فالتقدير بأن ردة الفعل ستكون عنيفة ولن
تعود الثقة بسهولة، وان حدث فليس مع خلال ذات الأشخاص الذين شكلوا الدائرة الأقرب
للرئيس السالف غريب الأطوار.
هذا على مستوى الأشخاص وأنظمة الحكم، أما
بالنسبة لمصالح الدول فستتأثر هي الأخرى بالتأكيد- إن صح افتراض وجود غضب أمريكي
كبير ووجود تدخل خارجي في الانتخابات- فمثلا وبمجرد إحياء الاتفاق النووي مع إيران
ستكون الإدارة الأمريكية قد صفعت دولا كثيرة (على مستوى المصالح).
أما بشأن الأدوار والتحالفات، فمن نافلة القول
بأنها ستتغير فكلمة السر والحاكم بأمر أمريكا في المنطقة سيتغير.
أما السياسات فلا بد لها أن تتغير هي الأخرى،
وهو ما يحصل الآن بالفعل، أليس توقف الإعدامات في بعض الدول، والأحكام المخففة والإفراجات
بوادر لسيناريو استيعابي للحظة الحرجة الراهنة؟
وهكذا فقد أسفرت رمال المنطقة كثيرة التحرك عن
رابحين وخاسرين وبنسب متفاوتة، لكن تبعا للسيولة السياسية فلا أمان من التقلبات
الحادة هنا دون بناء جذور مع أبناء الأرض الراسخين، وهو ما يعني تمكين المشاركة
السياسية ومراجعة ملف حقوق الإنسان، وحتى لا نبتعد كثيرا في التفاؤل، فعلى الأقل
عودة الأنظمة إلى مستوى أقل حدة في قمع المعارضين، بالنظر إلى أن بنيوية الأنظمة
غير متصالحة مع فكرة الديمقراطية.
بالمجمل، فلعبة الكراسي الدوارة التي تجري في
المنطقة لم تستقر بعد، وربما تسفر عن خروج بعض القادة دون كرسي أو بنصف كرسي،
ستحدث هيكلة كبيرة في الإدارة والوظائف، ستختلف مسارات الضغوط، قد لا يتوقف الأمر
على مجرد التحرش الأمريكي ببعض قيادات دول المنطقة العربية على خلفية الحريات
وحقوق الإنسان، بل يتجاوز ذلك.
(القدس العربي اللندنية)