أكملت
تونس خلال شهر كانون الثاني/ يناير المنصرم (2021) عشر سنوات على ما أطلق عليه التونسيون "ثورة الياسمين"، التي عصفت برأس النظام، وأهّلت البلاد للدخول في سيرورة إعادة بناء شرعية سياسية ومؤسساتية جديدة، تجسدت في صياغة دستور جديد (14 كانون الثاني/ يناير 2014)، وانتخاب أكثر من رئيس دولة وحكومة، وإجراء العديد من الانتخابات التشريعية، بيد أنه على الرغم من هذه الخطوات المهمة، تعيش تونس من شهور على وقع اضطرابات واحتجاجات اجتماعية متصاعدة، قد تُفضي إلى إضعاف ديمقراطيتها الناشئة، كما قد تُغير الصورة التي كونها المواطنون التونسيون عن التحول الديمقراطي في بلادهم، وتزعزع تاليا التقدير الذي أبدته دول خارجية كثيرة لحالة تونس في خريطة ما حصل في عموم البلاد العربية.
لا شك أن تونس قدمت نموذجا لافتا للانتباه، ومشرفا لقدرة المواطنين على تغيير بلدهم نحو الأفضل، أي في اتجاه إعادة بناء شرعية سياسية ومؤسساتية ديمقراطية جديدة. فتونس كانت إلى أعوام قريبة حالة استثنائية على الصعيد العربي، وكثيرا ما نُظر إليها مرجعا ومثالاً للإشارة إلى قدرة المنطقة العربية على إنجاز التحول الديمقراطي.
غير أن تونس تعاني اليوم من سلسلة من الصعوبات، تحتاج إلى وحدة وطنية خلاقة وشجاعة لابتكار حلول فعالة وناجعة، كما تحتاج إلى قوة دفع صادقة وعملية من محيطها الإقليمي والدولي، وبغير هذا قد تدخل البلاد التونسية دائرة غير واضحة من الاضطرابات السياسية والاجتماعية، قد تعصف بكل ما راكمت من إنجازات، وتُعيد ديمقراطيتها الناشئة التي لم تتوطد دعائمها بعد إلى ما قبل نقطة الانطلاق أو أكثر.
يمكن تحديد منابع القلق على
الديمقراطية الناشئة في تونس في أكثر من مصدر وسبب. فمن جهة، هناك طبقة سياسية منقسمة على ذاتها، تضم كل التيارات وأطياف اللون السياسي، من إسلاميين وعلمانيين، وقوميين، وليبراليين، وتكنوقراط لا انتماء سياسيا لهم، لكن يلعبون أدوارا مهمة وخطيرة في الآن معا.
وقد أثبتت سياقات التحول الديمقراطي أن الثقافة السياسية الديمقراطية لمجمل مكونات هذه الطبقة ما زالت في عمومها منخفضة، وتحتاج إلى ترسيخ ونضج أكثر، لتمد تونس بنخبة مسلحة باقتناع بناء تونس الجديدة.. ولعل التجاذب الموجود اليوم، والمعطّل لاستقامة الحياة السياسية في تونس، بين ثلاث شرعيات (الرئاسة، البرلمان، الحكومة)، يُبين طبيعة الفجوة بين ما يتطلع إليه المواطنون، وينتظرون جنيه من "ثورة الياسمين"، ونوعية السياسة كما تمارس في الواقع.
والحقيقة أن وهن النخبة السياسية وضعف أفقها السياسي يدخل في خانة ما هو مشترك بين أغلب البلاد العربية، ويشكل في الواقع أحد الأعطال التي طالت المجال السياسي العربي ، وليس التونسي وحده. فالحاجة ماسة لإجراء النخبة ثورة فكرية وثقافية على نفسها، أو الانسحاب، وهو ما يبدو عصيّا، لفتح الطريق أمام نخبة جديدة قادرة على إنجاز التحول الديمقراطي.
يُشكل الاقتصاد مصدراً مُفسرا للتهديدات التي تواجه الديمقراطية في تونس. فالتغيير الحاصل عام 2011، تمّ في سياق موسوم بالانكماش الناجم عن الأزمة المالية لعام 2008، والانعكاسات السلبية التي شملت الاقتصاديات الدولية، وقد زادته تعقيدا ديمومةُ التراجعات الحاصلة في معدلات النمو في القارة الأوروبية، بما فيها الدول الأكثر نموا، ومنها فرنسا التي تربطها علاقات تقليدية تعود لعقود طويلة. وعلاوة على ذلك، تعرضت تونس لضربات إرهابية، أوقفت انسياب السياح إليها، مما يعني تجفيف أحد مهام منابع الثروة الوطنية بالنسبة للاقتصاد التونسي. وإذا أضفنا إلى هذين المصدرين ابتلاء العالم بوباء كورونا، وما ترتبت عنه من مظاهر التوقف والشلل العام، يمكن وعي حجم التهديد الذي يمثله الاقتصاد بالنسبة لديمقراطية تونس.
يُضاف إلى وَهن النخبة السياسية وضعف الاقتصاد استمرار الفساد ومقاومة أصحابه لكل محاولات الحدّ منه، والتخلص من آثاره. فالفساد وحده يدمر العُمران، ويعرقل الديمقراطية، ويحولها إلى مجرد قوقعة فارغة، وينزع عن السياسة روحها الإيجابية، أي يُجردها من وظائفها النبيلة في الارتقاء بالإنسان نحو الأفضل. لقد شكل القضاء على الفساد أحد شعارات
الثورة التونسية، كما ظل مطلباً متجددا على امتداد كل السنوات التي أعقبت سقوط النظام، ومع ذلك ما زال الفساد يُجدد جلده، وما زال أصحابه يقاومون، ويتطلعون لأن يعودوا إلى مدارج السلطة ومؤسساتها، بل إن الترميم الحكومي الثالث في هذا العام ما زال يترنح، وينتظر موافقة مؤسسة الرئاسة، حتى وإن حصل وتمت المصادقة البرلمانية عليه.
هناك إذن مصادر تهديد قوية وبالغة الخطورة أمام الديمقراطية في تونس، والواقع لا يظهر بوضوح إمكانيات حقيقية لتجاوزها إيجابيا في الزمن المنظور، بل ربما احتمالات التفاقم ومشاهده ستكون أكثر رجحانا في القادم من الأيام والشهور، وأن السنوات القادمة في سيرورة التحول الديمقراطي التونسي ستكون صعبة دون شك. لذلك، تُقدم التجربة التونسية في مجال بناء الديمقراطية وتوطيدها دروسا للتساؤل والبحث والتحليل.
ونميل إلى التأكيد على أن أهم الأسئلة وأبرزها من واقع التجربة التونسية، التي شكلت مثلا وأملا للمنطقة العربية، يتعلق بمدى إمكانية بناء الديمقراطية، والنجاح في توطيدها وترسيخ ثقافتها، في بلد يُعاني من الضعف الاقتصادي والهشاشة في الإنتاج وتعظيم الناتج الخام الوطني، وفي مجتمع ينخره الفساد، ومع وجود نخبة سياسية أضعفتها الانقسامات، وأعمت أبصارها شهية السلطة واقتسام المنافع.