للأمم والشعوب
ذاكرة، ولا يمكن التعامل مع أي شعب على النحو الصحيح من دون استحضار ما هو موجود في
ذاكرته الجمعية. فتاريخ ذلك الشعب يؤثر بشكل كبير في ماهيته، كما يؤثر على واقعه المعاش.
والتاريخ ليس فقط الأحداث بل يشارك الحدث من صنعه وأداره وأثر فيه وتأثر به. ومع محاولة
البعض إفقاد الشعوب ذاكرتها بتشويه تاريخها منذ فجر التاريخ، فقد كان دور الكاتب تنشيط
تلك الذاكرة وإحياء الأحداث وإحقاق الحقائق بإبراز دور كل فاعل بما له وما عليه.. ولقد
أثر
حزب الوسط المصري، كما كل التيار الإسلامي، ليس في صناعة تاريخ مصر المعاصر، بل
وفي السعي لتكوين شخصية مصرية أريد لها أن تتحرر ثم تسود العالم، كما كان أجدادهم.
نضال ما قبل الترخيص
لم يبدأ
نضال حزب الوسط المصري من تاريخ التاسع عشر من شباط/ فبراير 2011، حين نطق قاضي المحكمة
الإدارية، ولا بعد أن خطب مؤسس الحزب المهندس
أبو العلا ماضي خارج قاعة المحكمة بعد
النطق بالحكم؛ بأنه سقطت الأقنعة، سقطت
الأحزاب الديكورية التي رضيت أن تلعب مع النظام
السابق (يقصد مبارك) كديكور لإفساد الحياة السياسية.. ليحمد الله بعدها ويشكر الشعب
على ثورته التي فتحت الباب لترخيص الحزب بحكم المحكمة.
فنضال حزب
الوسط بدأ قبل ستة عشر عاما من هذا اليوم التاريخي، تخللته انتصارات وانكسارات، ودعم
أحباء وخذلان أصدقاء، وحرب نفسية وحرب قانونية ما زادت المؤسسين إلا تثبيتا، وما كان
الرفض إلا مزيدا من التجويد والتحسين والمراجعات، ومزيدا من الخبرات، ولم تكن الإخفاقات
إلا دوافع، وما كانت العثرات إلا طاقات أمل تقوي الفرس وتصقل الفارس.
كلما زاد
التحدي زادت الرغبة في النجاح. ويقف المؤسسون مليا لإعادة ترتيب الأوراق والأفكار والاستراتيجيات
من منطلق منهج اختاروه وآمنوا به وأرادوا أن يطوروا أفكاره وأدواته، في وقت ماجت الدول
من حول مصر، وتلاقحت تجارب التغيير من بين من اختار العنف ومن اختار السياسة وتقويم
الأفكار، كل ذلك في إطار إيمان الحزب بهوية بلاده الإسلامية العربية، وإيمان الحزب
بمواطنة كل فرد على هذه الأرض وحقه في العيش الكريم، وحق الأرض عليه في جهده وفكره
من دون إقصاء ولا تفرقة.
فعلى الرغم
من رفض طلبات الحزب في الترخيص أعوام 1996، و1998، و2004، و2009، إلا أن مؤسسيه سعوا
إلى التعاون مع الأحزاب والتنظيمات على كافة مشاربها وتوجهاتها لتحقيق الإصلاح السياسي
ورفعة الوطن وصون كرامة مواطنيه، ليضرب الوسط المثل في الوطنية الحقيقية ويدشن مشروع
إنكار الذات لمصلحة ذات الوطن، كما مثل مشروع الاختراق الحضاري للأمة من خلال رؤيته
بإعادة صياغة العلاقات مع الآخر والخارج بين أطراف العقد الاجتماعي ومن ثم ضرورة إعادة
صياغته، وهو ما أتاحته ثورة يناير واتفاق الشعب على كتابة دستور جديد يجتمع الشعب عليه.
الوسط.. المعنى والحلم
حسم الحزب
أمره في السطور الأولى من برنامجه الذي يعدّ دستور الحزب ومرجعيته بالنص على: "يؤمن
مؤسسو حزب الوسط الجديد أن الأوطان الحرة لا تملك ترف الاستغناء عن جهود أحد من أبنائها"،
وهو ما يعكس فكر هذا الحزب المنفتح على كل أطياف الأمة المصرية. ولقد ضم الحزب بين
مؤسسيه الأوائل إخوة مسيحيين، وذلك لإيمانهم بمدنية الحزب وسعة فكره واحتوائه كل أصحاب
الهمم الوطنية لخدمة هذا الشعب. لقد اختار الحزب من اللحظة الأولى أن يكون مستقلا وغير
تابع لا لتنظيم أو جماعة، ولم يقبل مؤسسوه أن يعملوا تحت الأرض ولا من خارج الوطن.
لقد كانت
مواقف الحزب بعد الثورة وقبلها مثالا للعمل السياسي المنحاز لوطنه لا للافتة ولا المسمى،
فالحزب وسيلة لخدمة الوطن وليس العكس، ولطالما كانت قيادات الحزب تغذي روح التفاني
من أجل هذا الوطن كما تغذي روح المواطنة سواء بسواء. فالوسطي عند الوسطيين هو كل مصري
يعيش على أرض مصر ويحمل قيمها ويعتز بتاريخها الفرعوني والمسيحي كما الإسلامي. الوسطي
هو من يسعى للتضحية من أجل الوطن، الوسطي من يعرف أن الوطنية ليست هتافا والوطن ليس
النظام، فلم يختلف مصري على منطلقات الحزب التي تمثلت في ضمان حقوق المواطنة بغض النظر
عن الدين أو الجنس أو العرق أو الوضع أو الثروة. ولصون كرمة المواطن يجب إلغاء القوانين
الاستثنائية والمحاكم الخاصة، وإطلاق حرية اختيار ممثلي المواطن في مراكز اتخاذ القرار،
سواء في السلطة التشريعية أو التنفيذية، وإطلاق حرية الرأي وتكريس الشفافية والمساءلة،
ومن ثم تهيئة المجال لبناء حياة كريمة للمواطن ورفع المعاناة عن كاهل الفقراء، من خلال
مشروعات تنموية وتعاونية تستوعب شرائح واسعة وتمكنهم بعيدا عن انتهازية قواعد النظم
الرأسمالية، من غير تعويق لاستثمار القطاع الخاص، كل ذلك في إطار عام تحكمه القيم والمبادئ
التي توافقت عليها الأمة والمستقاة من مبادئ الحضارة الإسلامية.
كل هذه
المبادئ تجسدت حلما قبله المصريون، بل وصوتوا له في أول انتخابات برلمانية حقيقية نزيهة
شهد لها العالم، وكان الحزب حينها لم يكمل بناء هياكله فلم يكن قد مرت عليه سوى ستة
أشهر، مع ذلك استطاع الحزب ورغم المنافسة الشديدة والاستقطاب الأشد أن يتحصل على ثقة
مليون ناخب، رغم عمره القصير في حياة مصر السياسية ما بعد الثورة.
الوسط في خدمة الوطن
قدم الحزب
أوراق اعتماده لنيل ثقة الشعب المصري بشتى شرائحه بجهد وعرق، وكسب ثقة الجميع بمواقفه
المخلصة للم شمل الطيف المصري في العديد من المواقف بعد ثورة يناير. ويكفي دوره في
نزع فتيل الأزمة في اعتصام القوى المدنية في ميدان التحرير في تموز/ يوليو 2011، وتهديدات
القوى الإسلامية بفض الميدان بالقوة، بالتظاهر الحاشد في الميدان للمطالبة بفتح الطريق
أمام الانتخابات، بعد تباين وجهات النظر في أولويات المرحلة، فكان موقف الوسط المشرف
والموثوق بجمع أطراف الأزمة بمقر الحزب بالقصر العيني ليخرج الجميع يدا واحدة في خدمة
الوطن وتحقيق أهداف الثورة.
وكما قدم
في تقريب الجهود لخدمة الوطن في مبادرات التقريب، قدم الجهد والعرق والفكر من خلال
القنوات الشرعية التي أتيحت له بعد الثورة، سواء في مجلس الشعب أو في مجلس الشورى من
خلال تقديم مشروعات قوانين انحاز فيها للمواطن ولمصلحة الوطن، كقانون الحدّ الأدنى
للأجور، وقانون الضرائب على الدخل الذي انحاز فيه للفقراء، رافعا نسبة تحصيل الضريبة
من الأغنياء مع رفع الحد الأدنى من تحصيل الضريبة لإخراج شرائح كبيرة من تحت طائلة
التحصيل، وكذا كادر الأطباء الذي كان آخر ما خرج إلى نور مجلس الشورى قبل انقلاب الثالث
من تموز/ يوليو.
فكان الوسط
ولا يزال عاملا من أجل هذا الوطن، وإن حاول البعض بمنطلقات السياسة حرفه عن شعاره الأبدي
السرمدي العظيم "الوطن قبل الوسط" لجني مكاسب مشروعة بحسابات السياسة، لتشكيل
حكومة أو تحصيل حقيبة وزارية، لكن حكماء الوسط لطالما كانوا يرشّدون تلك الحقوق المشروعة
بالتذكير بالهدف الحقيقي للحزب، وهو خدمة الوطن بعيدا عن مراوغات السياسة لتحصيل مكاسب
صغيرة يسمى بها شخص.
الوسط حلم وطن
كان الوسط
ولا يزال حلم الوطن ومصدر ثقة للشعب، بمواقفه وبحكمة رجاله وعقول أبنائه الذين يعملون
ليل نهار لرفعة الوطن وكرامة مواطنيه. فالتاريخ يحمل المسؤوليات، والمواقف تكشف الرجال،
ولا يزال الوطن يحتاج جهود أبنائه في الوسط، كما أن الوطن يحتاج أن يخرج من دائرة الاستقطاب
الحاد المحاط بقوانين الإقصاء والترهيب، كما يحتاج الخروج من دائرة التخوين إلى دائرة
التقريب. فالانسداد الحاصل في مصر منذ سبع سنوات يحتاج من يخترقه بمشروع جامع تحمله
جهة توافقية تنال ثقة كل الأطراف، ولا يحمل هذا المشروع إلا هذه النوعية من البشر التي
تعرف معنى الوطن وتنكر ذاتها من أجل المصلحة العامة.. سبع سنوات مرت على مصر قاسية،
دامية، أزهقت فيها آلاف الأرواح الطاهرة، وسلبت فيها حرية عشرات الآلاف من الشباب،
وشردت فيها مئات الأسر في المنافي، ولم ينعم فيها رغم كل ذلك من تصدر المشهد وأخذ زمام
الأمور عنوة، ولا يزال، بعد سبع سنوات، يبحث عن شرعيته وإن اعترف به المجتمع الدولي
الباحث عن المصالح، ولو على دماء الشعوب.
لا يزال
الوسط حلم شعب يطمح في حياة أفضل، حرية أكثر، مستقبل أجمل. لا يزال الشعب ينتظر من
الوسط الخطوة التي تأخرت لإخراج مصر من دوائر النار، فديدن المصلحين تحمل الأذى والمحن
لإخراج قومهم من ضيق حياتهم إلى متسع الرحمة والتراحم.