أمة بلا رأس!
لم تكن خلافة، ولم تكن راشدة، وإن اعتلى سدة الحكم فيها حكام صالحون راشدون (بعد الخلفاء الراشدين الأربعة رضي الله عنهم)، مثل عمر بن عبد العزيز الأموي، وعبد الحميد الثاني العثماني، وغيرهما.. فمنذ استيلاء معاوية بن أبي سفيان (غفر الله له) على السلطة، بالحرب لا بالشورى والانتخاب، ونحن بصدد "ملك عَضوض" كما وصفه الرسول (صلى الله عليه وسلم) في حديثه الشريف الذي رواه الإمام أحمد وآخرون، وصححه الألباني.. والمُلك العضوض، أي الذي يصيب الرعية فيه عسْفٌ وظُلم، كأنهم يُعَضُّون فيه عَضّاً. وفي رواية: "ثم يكون مُلك عُضوض" وهو جمع "عِضٍّ" بالكسر، وهو الخبيث الشرِس! إذن، فمن الأدب مع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أن نسمي المسميات بما سمّاها، لا أن نُجمِّل ما قبّحه منها، وكأننا نستدرك على جنابه الكريم، حاشاه.
ألغى مصطفى كمال "
الخلافة" فعليا، في عام 1924م، بعد أن ألغاها (شكليا) في عام 1922م، وقنع بالأناضول وتراقيا (الجزء الأوروبي من تركيا الحالية)، وسمّاهما "الجمهورية التركية"، وتخلى (بموجب معاهدة لوزان) عن كل الأراضي التي كانت تحت "السيادة العثمانية"، والتي توزعت (فيما بعد) على الدول التي انتصرت في الحرب العالمية الأولى (الحلفاء).
نيف وألف عام، وللمسلمين رأس، نختلف أو نتفق حول أحقية هذا الرأس بموقع "الخليفة"، لكنه (في النهاية) أبرز العلامات، على وجود "الأمة الواحدة"، إحدى القوى العظمى في العالم، والتي كان يحسب لها أعداؤها ألف حساب لبضعة قرون! حتى كان يوم 3 آذار/ مارس 1924م، الذي جز فيه مصطفى كمال هذا الرأس (عبد المجيد الثاني آخر السلاطين العثمانيين) وألقى به في عرض البحر، مطرودا (شر طردة) من البلاد التي حكمها أجداده سته قرون، وطرد معه بني عثمان جميعا، وصادر أملاكهم! وانتهت "الخلافة" سياسيا وروحيا، ولم يعد للمسلمين "رأس"!
إذا لم تكن مسلما (حقيقيا) فلن تشعر بمرارة هذه اللحظة، وشدة ألمها، وسوء وقعها على عقلاء الأمة التي لم تعد "أمة" بالمفهوم السياسي، منذئذ، وإنما أمست أمما، أو أقاليم لا يملك أي منها قراره السياسي، وصارت تدار (جميعا) من "وزارات المستعمرات" في دول الحلفاء..
أما إذا كنت مسلما (حقيقيا) فلن يهدأ لك بال، ولن يهنأ لك عيش! وستعمل كل ما في وسعك، وستبذل كل وقتك وجهدك لإيقاظ المسلمين من سباتهم، ودعوتهم لتدارس الأسباب التي أدت إلى جز "رأسهم"، وسُبل تنصيب رأس جديد، خال من علل سابقيه ما أمكن، ورسم خارطة طريق لتحقيق هذه الغاية، تبدأ بنفض الغبار عن الدين، وإعادة تقديمه خاليا من الشوائب التي اختلطت به على مدى قرون، والسعي بين الناس لتبني هذا الطرح، ودعمه ومؤزارة القائمين عليه..
ومن فضل الله على هذه الأمة أنها لم تخل يوما من هذا الطراز الرفيع، من أصحاب الهمم العالية، والنفوس السويّة، والعلم الواسع، والحضور الآسر، والذين نذروا أنفسهم (كلّ في زمنه) لإيقاظ الأمة كلما غفت، واستنهاضها كلما كبت، وردها إلى الصراط المستقيم كلما حادت. ومن هؤلاء شاب يافع اسمه
حسن البنا، وُلد في 14 تشرين الأول/ أكتوبر 1906م، أي لم يكن أكمل عامه التاسع عشر يوم أطاح أتاتورك برأس الأمة، في 3 آذار/ مارس 1924م!
ماذا كان يريد حسن البنا؟
يعتقد الإخوان المسلمون أن الأستاذ البنا (رحمه الله) سعى (منذ البداية) لتأسيس جماعة "الإخوان المسلمين"! وهذا (لعمري) افتراء على الرجل، وعلى الحقيقة المجردة، وعلى التاريخ! فالسعي لإنشاء كيان ما (سياسي، اقتصادي، اجتماعي، دعوي.. إلخ)، يكون حسب "خطة" منهجية مُمَرحَلَة، تبدأ بصياغة الإطار النظري لهذا الكيان، وأهدافه، ووسائله، وهيكله التنفيذي.. إلخ. ثم يسعى صاحب "المشروع" لعرض مشروعه "المكتوب" على من يتوسم فيهم قبوله، والانخراط فيه، أو دعمه ومؤازرته، ثم يشكل منهم الهيئة التأسيسية، ثم التنفيذية، ثم النزول إلى الميدان.. فهل قام الأستاذ البنا بأي مما سبق؟
الإجابة: كلا البتة!
فالبنا يوم حط رحاله في الإسماعيلية عام 1927م، كان قد تخرج لتوه في كلية دار العلوم بالقاهرة، وسِنُّه لم يتجاوز الواحد والعشرين! كان يحمل عِلماً وهَمّاً وخبرة دعوية، هذه كانت كل "بضاعة" البنا، وأكرِم بها من بضاعة، فماذا يحتاج الداعية أكثر من ذلك، إذا كان الله قد حباه القبول وطلاقة اللسان ودماثة الخُلُق؟! إنه لا يحتاج سوى "نية صادقة"، ثم يتوكل على الله وينطلق.. وهذا ما كان من أمر حسن البنا (حرفيا) لا أكثر من ذلك، ولا أقل!
حسن البنا.. الطفل الاستثنائي
أما العِلم، فقد شربه البنا من علماء أجلاء، في الوقت الذي كان يلهو أترابه بالألعاب الطينية والخشبية في شوارع المحمودية! كان لا يزال طفلا، عندما اكتشف نبوغَه وتميزه شيخُه ومعلمه محمد زهران، صاحب مدرسة الرشاد الدينية (الابتدائية)، الذي يصفه البنا في "مذكرات الدعوة والداعية" بـ"الرجل الذكي الألمعي، العالم التقي، الفطن اللقن الظريف، الذي كان بين الناس سراجا مشرقا بنور العلم والفضل، يضيء في كل مكان. وهو وإن كانت دراسته النظامية لم تصل به إلى مرتبة العلماء الرسميين، فإن ذكاءه واستعداده وأدبه وجهاده قد جعله يسبق سبقاً بعيداً في المعارف، وفي الإنتاج العام". فكيف كان يتلقى البنا العلم عن شيخه ومحاوريه الشيوخ، وهو لا يزال في هذا السن الغض؟!
يقول البنا في مذكراته: "لقد كنا نحب أستاذنا حباً جماً، رغم ما كان يكلفنا من مرهِقات الأعمال. ولعلي أفدت منه (رحمه االله) مع تلك العاطفة الروحية؛ حب الاطلاع وكثرة القراءة، إذ كثيرا ما كان يصطحبني إلى مكتبته، وفيها الكثير من المؤلفات النافعة لأراجع له وأقرأ عليه ما يحتاج إليه من مسائل، وكثيراً ما يكون معه بعض جلسائه من أهل العلم، فيتناولون الموضوع بالبحث والنظر والنقاش وأنا أسمع".
تخيل (عزيزى القارئ) طفلا في سن الحادية عشرة، أو أكبر قليلا، يقرأ في "أمهات الكتب" على شيخه، فيصحح له الشيخ الألفاظ إذا أخطأ في تهجئتها، والنحو إذا أخطأ في ضبطه، ويشرح له المعاني الغامضة وما أكثرها في هذه الكتب، ثم يجلس يستمع إلى نقاش شيخه مع ضيوفه الشيوخ، في المسائل التي قرأها لتوه!.. تخيل!
وأما الهمُّ فهو شعور داخلي، يعرفه كل أحد، لكن هَمَّ البنا وأترابه من المصلحين ليس ذلك الهم المصحوب بالقلق والتوتر الذي يصيب أصحاب التلطعات الدنيوية، فيكدر صفو حياتهم! وإنما همّ من نوع آخر، لا يعرفه إلا مَن عرفوا الله حق المعرفة، وسلكوا طريقه لنصرته.. همّ يشحذ العزيمة، ويوقد الذهن، ويفجر الطاقة الكامنة، ويورث صاحبه تواضعا، ويملؤه عِزة، ويجعله مستغينا بأقل القليل، لا تغريه كثرة المال، ولا يرهبه بطش السلطان، ولا يتطلع إلى جاه، ولا يسعى إلى شهرة!
وأما الخبرة الدعوية، فقد بدأ البنا في حصدها منذ طفولته المبكرة! يقول (رحمه الله) في مذكراته: "مررت ذات يوم على شاطئ نهر النيل، حيث يشتغل عدد كبير من العمال في بناء السفن الشراعية، وهي صناعة كانت منتشرة في محمودية البحيرة، فلاحظت أن أحد أصحاب هذه السفن المنشأة قد علق في ساريتها تمثالا خشبيا عاريا، على صورة تتنافى مع الأدب، وبخاصة أن هذا الجزء من الشاطئ تتردد عليه السيدات والفتيات يستقين منه الماء، فهالني ما رأيت، وذهبت فورا إلى ضابط النقطة (ولم تكن المحمودية قد صارت مركزا إداريا بعد) وقصصت عليه القصص، مستنكرا هذا المنظر! وقد أكبر الرجل هذه الغيرة، وقام معي من فوره، حيث هدد صاحب السفينة وأمره أن يُنزل هذا التمثال في الحال، وقد كان، ولم يكتف بذلك، بل إنه حضر صباح اليوم التالي إلى المدرسة، وأخبر الناظر الخبر في إعجاب وسرور. وكان الناظر مربيا فاضلا هو الأستاذ محمود رشدي، وهو من كبار رجال وزارة المعارف الآن (حين كتب البنا هذه المذكرات) فسُر هو الآخر، وأذاعه على التلاميذ في طابور الصباح، مشجعاً إياهم على بذل النصيحة للناس، والعمل على إنكار المنكر أينما كان".
أهذا مجرد "تلميذ" في المرحلة الابتدائية، أم مشروع "مصلح عظيم" يعرف (تماما) كيف ينكر المنكر ويمحوه؟!
(يُتبع)..
twitter.com/AAAzizMisr